صدر كتاب “سبتة: متى وكيف اغتصبتها إسبانيا” لمؤلفه محمد ابن عزوز حكيم، سنة 1985، وذلك في ما مجموعه 98 من الصفحات ذات الحجم الصغير. والعمل، محاولة دقيقة لتقريب القارئ من مجمل التطورات التاريخية اتي مرت منها مدينة سبتة السليبة قبل اغتصابها، ثم بعد سقوطها تحت الاحتلال البرتغالي سنة 1415. ولقد سعى المؤلف في ذلك إلى الرد على الكثير من الافتراءات والأكاذيب التي ظلت ترددها كتب التاريخ الإسبانية ووسائل الإعلام الإيبيرية، بشكل ساهم في شحن المتلقي بركام كبير من الأحكام الخاطئة التي ترسخت في ذهنية المواطن الإسباني، ولتتحول إلى أحكام قطعية ونهائية غير قابلة للجدال وللشك، مثلما هو الحال مع قضية التاريخ الحقيقي لاحتلال المدينة، أو مع قضية الوسيلة المعتمدة في الاحتلال، أو مع حكاية غياب الدولة المغربية المركزية خلال الفترة التي سقطت فيها المدينة تحت الاحتلال، أو مع الادعاء القائل بأن سبتة جزء لا يتجزء من التراب الإسباني،… والحقيقة، إن ابن عزوز حكيم كان دقيقا في رده على كل هذه الأباطيل، مستندا في ذلك إلى استقراء عميق للوثائق الإسبانية والبرتغالية ولرصيد ضخم من المصنفات الإيبيرية المدونة. وبذلك نجح في تقديم خلاصات اجتهاداته وتقريب نتائجها من عموم المؤرخين والمهتمين، بشكل لا نجد مثيلا له في أي عمل تصنيفي سابق، سواء داخل المغرب أم خارجه. ويقينا إن عموم أعمال ابن عزوز حكيم حول احتلال مدينة سبتة –ومن ضمنها الكتاب موضوع هذا التقديم- قد أصبحت مراجع لا غنى عنها بالنسبة لكل الباحثين في تحولات ماضي المدينة السليبة، منذ مطلع القرن 15 وإلى يومنا هذا. وبخصوص السقف العام الذي تحكم في عمل ابن عزوز حكيم أثناء اشتغاله على موضوع الكتاب، فقد سعى إلى التواصل –من خلاله- مع الرأي العام الداخلي قصد تنويره بحقيقة الموقف وبصدقية الحجج الكفيلة بإبراز زيف الادعاءات الإسبانية. في هذا الإطار، يقول في تقديمه للكتاب: “…إذا اعتمد الرأي العام على خريطة إسبانيا وحكم بأن جبل طارق يكون جغرافيا جزءا لا يتجزء من التراب الإسباني، فإنه سوف لن يتعب نفسه في البحث عن خريطة أخرى، بل سيجد في نفس الخريطة ما يحتم عليه أن يحكم بأن سبتة ومليلية تكونان جزءا من التراب المغربي. وبما أن المغاربة مع الأسف لا يجدون في كتبهم التاريخية ما يمكنهم من معرفة دقائق جميع الأمور المتعلقة باحتلال مدينة سبتة ولا يتوفرون على معلومات كافية لإدحاض الأقاويل والافتراءات والأكاذيب الإسبانية، وبما أني أتوفر على معلومات في هذا الجانب، فقد رأيت أنه من الواجب علي أن أخصص هذه الدراسة لقضية اغتصاب مدينة سبتة من طرف إسبانيا بغية إقامة الدليل على بطلان تلك الادعاءات المغرضة، لأن إسبانيا لم تقم أبدا باحتلال المدينة المغربية المذكورة لا على الشكل الذي تدعيه ولا في الوقت الذي تزعمه…” (ص ص. 10-11).
تتوزع مضامين كتاب “سبتة: متى وكيف اغتصبتها إسبانيا” بين ثمانية فصول متكاملة، تدرجت عبرها الوقائع حسب تسلسلها التاريخي، إلى جانب الملحق الفوتوغرافي والخرائطي التوثيقي الهام والتقديم العام للكتاب. ففي الفصل الأول، سعى المؤلف إلى تقديم المعطيات الأساسية حول واقع مدينة سبتة قبل الاحتلال البرتغالي والتي جعلت منها مدينة مغربية خالصة انصهرت مع مجالاتها الجهوية والوطنية العربية الإسلامية. أما في الفصل الثاني، فقد انتقل للحديث عن ظروف احتلال البرتغال للمدينة سنة 1415م، مركزا سرده على مختلف أشكال المقاومة التي أعلنها المغاربة منذ أول يوم من احتلال المدينة. وارتباطا بهذا المعطى الجهادي الكبير، خصص المؤلف الفصل الثالث لتوضيح تداعيات الهزيمة الكبرى التي لحقت بجيش البرتغال في معركة وادي المخازن سنة 1578م، والتي أدت –من بين ما أدت إليه- إلى مبايعة الملك الإسباني فيليبي الثاني ملكا على البرتغال حسب ما يوضحه الفصل الرابع. وفي الفصل الخامس، استفاض المؤلف في توضيح أشكال تمهيد إسبانيا لعملية اغتصاب سبتة، الشيء الذي تحقق بالفعل منذ سنة 1640 حسب ما يوضح سياقاته التاريخية الفصل السادس. وفي الفصل السابع، انتقل المؤلف لتوضيح موقف دولة البرتغال من الاغتصاب الإسباني لمدينة سبتة، وكيف أنها لم تعترف بهذا الاغتصاب وبذلت الكثير من الجهد من أجل وضع حد له، كما تدل على ذلك مواقف الملك البرتغالي الجديد خوان الرابع. ولم تستسلم البرتغال للأمر الواقع إلا بعد تدخل مباشر من ملك بريطانيا العظمى الذي نجح في التوفيق بن ملك البرتغال ألفونصو السادس وملك إسبانيا كارلوس الثاني، حيث تم إبرام معاهدة صلح بين البلدين يوم 13 فبراير 1668م التي فوتت مدينة سبتة “رسميا” لإسبانيا وفق شروط ومصالح استعمارية متبادلة.
وإذا كان المغرب قد رفض كل هذه المؤامرات والمساومات، فإن المقاومة لم تتوقف في أي فترة من الفترات الماضية، وظلت تفرض حصارا شديدا على المدينة استمر لعقود زمنية طويلة، وفي ذلك تأكيد لمغربية المدينة بشكل لا يقبل أي جدال. وفي كل المحطات الجهادية الداعمة للحق المغربي، ظل ابن عزوز حكيم حريصا على تقديم الحجج الوثائقية الإسبانية التي تؤكد عدم اعتراف الإسبان أنفسهم بشرعية احتلالهم للمدينة. فعلى سبيل المثال، نذكر –هنا- المرسوم الذي أصدره الملك كارلوس الثاني يوم 7 دجنبر 1691، والذي جاء فيه –ردا على بعض مطالب سكان سبتة- أنه: “ليس لأبناء سبتة الحق في مزاولة الوظائف الخاصة بالإسبانيين إلا إذا غادروا مدينتهم واستقروا بصفة نهائية فوق التراب الإسباني. كما أن سبتة نفسها لا تعتبر بمثابة مدينة إسبانية كباقي المدن الإسبانية حتى يكون لها حاكم مدني وقاضي مدني مثل ما هو الحال بخصوص مدينتي قادس ومالقة مثلا. وأخيرا أنه لا حق لسكان سبتة في أن يكون لهم من يمثلهم في مجلس الكورطيس مثل ما هو جاري به العمل في المدن الإسبانية. ولذلك فعندما يكون لهم أي مطلب لدى الكورطيس يجب أن يعبروا عنه بواسطة مدينة مالقة أو إشبيلية…” (ص. 51).
وعلى غرار هذا النوع من الوثائق الإسبانية، اعتمد ابن عزوز حكيم على رصيد هام من المظان التي تؤكد عدم شرعية ما قامت به إسبانيا من احتلال في حق المدينة وفي حق المغرب. ويقينا إن نشر مثل هذه الوثائق سيساهم في إلقاء المزيد من الضوء على خبايا التاريخ المغيب في ماضي المدينة السليبة. وتلك أهم وسيلة يمكن –من خلالها- مقارعة أباطيل الاستعمار الإسباني وحملاته الدعائية التي لازالت تنفث الكثير من سمومها بشكل يومي وموجه، لتتردد أصداؤها في منابر إعلامية مختلفة، بل وفي مؤسسات جامعية وعلمية إسبانية معاصرة.
أسامة الزكاري