شهدت مدينة تطوان خلال عقود الاستعمار الإسباني للقرن 20 نهضة ثقافية وفكرية مثيرة، جعلتها تتحول إلى واجهة للتنوير –ليس فقط- على المستوى الوطني، ولكن –كذلك- على مستوى الامتدادات العربية والإسلامية الواسعة. فإلى جانب ريادتها في مجال تطوير الحركة التعليمية بإنشاء مؤسسات مختصة مثل “المعهد الحر” و”معهد مولاي المهدي”، وبإرسال بعثات طلابية للتكوين بالخارج مثل بعثة “مدرسة النجاح” بفلسطين، وإلى جانب –كذلك- دورها البارز في التأسيس للعمل الجمعوي الجنيني مثلما هو الحال مع إنشاء أول جمعية للدفاع عن حقوق الإنسان بالمغرب بمبادرة من الحاج عبد السلام بنونة، أو إنشاء “جمعية الطالب المغربية” بمبادرة من الزعيم عبد الخالق الطريس، وإلى جانب دورها الإعلامي المرتبط بسيل الصحف التي كانت تصدر بالمدينة مثل “الحياة” و”الحرية” و”الريف”، وإلى جانب ظهور التنظيمات الحزبية العصرية الأولى وعلى رأسها حزب الإصلاح الوطني وحزب الوحدة المغربية، وإلى جانب كل ذلك، اكتسبت مدينة تطوان الكثير من عناصر السبق في مجال الإشعاع الثقافي من خلال إصدار مجلات ودوريات متخصصة كان لها صداها الواسع على اهتمامات النخب وعلى انتظاراتهم الثقافية والفكرية التجديدية، مثلما هو الحال مع منابر التأسيس والانطلاقة، وأخص بالذكر مجلات “الأنيس”، و”السلام”،…
في إطار هذا المسار العام، يندرج صدور مجلة “الحديقة” بأعدادها الخمسة خلال سنتي 1954 و1955، بمبادرة من الفقيه محمد بوخبزة، وبتأطير من كوكبة من شباب مدينة تطوان المنخرط داخل “ندوة الأدباء الشباب”، والتي كانت تضم كل من محمد بوخبزة، وعبد الواحد أخريف، وحسن ابن المفتي، والمهدي الدليرو، ومحمد الطنجاوي. وعن هذه الكوكبة، تشكلت هيئة التحرير التي أشرفت على إخراج العمل وعلى دوام انتشاره وإشعاعه، وهي الهيئة التي ضمت كل من محمد بوخبزة، وعبد الواحد أخريف، ومحمد البقالي، والمهدي الدليرو، ومحمد الطنجاوي، ومحمد اليزناسي، ومصطفى الوراكلي، وحسن ابن المفتي، ومحمد شقور. ويمكن القول، إن إعادة، تجميع مواد الأعداد الخمسة من مجلة “الحديقة” ونشرها في حلة توثيقية قشيبة، خلال مطلع سنة 2021، تحت إشراف الأستاذ يونس السباح، في ما مجموعه 242 من الصفحات ذات الحجم الكبير، يقدم خدمة جليلة للباحثين وللمهتمين ولعموم المؤرخين، بتمكينهم من ذخائر التراث الثقافي والفكري لمدينة تطوان منتصف القرن الماضي، مما أضحى من الصعب الوصول إلى مظانه والنهل من مضامينه ومن عناصر غناه. ولقد عزز الأستاذ يونس السباح عمله بإنجاز تقديم تركيبي هام، حول المجلة، وحول سيرة صاحبها ومؤسسها، وحول سياقها التاريخي الذي أثمر معالم الخصب داخل الهوية الثقافية لمدينة تطوان المعاصرة. يومها، كان انخراط المؤسسات التعليمية في مشاريع التنوير الثقافي أساس بناء الفرد، وأفقا لجهود صقل الكفاءات والمهارات، ومنارا لتثمين روح الخلق ومكارم الإبداع لدى الشباب. دليل ذلك، أن محمد بوخبزة، الذي يعد مؤسسا للمجلة وأبا روحيا لها، اضطلع بمهامه على رأس مجلة “الحديقة” وهو في سن الثالثة والعشرين. كان الأمر يتعلق بجيل سبق عصره، فاختار طريق بناء النفوس، ونهج مسار العقل، وتشرب بقيم الفكر، واستلهم مسارات الإبداع. فكان جيلا بحيوات متعددة، أثمرت كل هذا الخصب الذي صنع لمدينة تطوان ريادتها الثقافية والحضارية المميزة.
وبخصوص الإطار العام الموجه لعمل مجلة “الحديقة”، فقد لخصه الفقيه محمد بوخبزة في كلمته التقديمية للعدد الأول الصادر يوم 27 دجنبر من سنة 1954، قائلا: “… “الحديقة” تعلن صراحة، وفي أول عدد منها، أنها مباحة للجميع. مبدؤها لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أبيض ولا لأبيض على أحمر إلا بالتقوى والإخلاص والعمل لصالح الجميع، وإحياء تراثنا الأدبي والعمل على حفظه وصيانته من كيد الكائدين وتحريف الغالين وانتحال المبطلين، إذ هو البقية الباقية لنا من أمجادنا التي لم تعد معروفة إلا في بطون الكتب وطوايا الدفاتر غير أنها قد تضطر إلى سد أبوابها في وجه من يريد العبث بأفنانها وإفساد أزهارها وتسميم تربتها. والحديقة تنصح لجميع الطلبة ولمن يريد أن يكون من روادها وزوارها بتجنب السياسة وعدم الخوض فيها، وتذكرهم بقول حكيم الشرق وفيلسوفه “ما خالطت السياسة شيئا إلا أفسدته”. فحسب الطالب أن يعني بإصلاح نفسه، والاشتغال بعيوبه والتزود من العلم والعرفان فهو الباقي أثره، الخالد ثمره على مر الأزمان، ولا نعدم لهذا طاعنا علينا ساخرا بنا، يغدو ويروح ناشرا لعيوبنا، ملصقا بنا ما نحن منه براء. وجوابنا على هذا ما قيل قديما: “الحق لم يدع لصاحبه صديقا”. والحديقة –أخيرا- تنتظر من أحرار الطلبة التشجيع الكافي والإقبال الطيب، فليس اتكالها بعد الله تعالى إلا عليهم، فهم أعمدتها الراسخة…”.
وعلى الرغم من أن المجلة لم تعمر إلا فترة زمنية قصيرة لم تتجاوز سنتين اثنتين، فقد استطاعت ترك أثرها العميق داخل تربة الفكر والعطاء الثقافي بمدينة تطوان، بدليل نجاحها في استقطاب نخبة من أقلام المنطقة الخليفية الذين وجدوا فيها منبرا لإسماع أصوات الإبداع الشبابي الباحث عن إثبات جدارته وعن تجسيد عزيمته في التميز وفي الحفر عميقا داخل النهر الدافق للحركة الثقافية المجددة بمنطقة الشمال خلال عهد الاستعمار. نستدل في هذا الباب –على سبيل المثال لا الحصر- وإلى جانب أعضاء هيئة التحرير، بإسهامات كل من عبد الكريم الطبال، وفيصل الخطيب، وأحمد عبد السلام البقالي، ومحمد البوعناني، ومحمد بن عيسى، ومحمد الخضر الريسوني، وشفيقة السعيدي، وعبد السلام أعفاري، ومحمد الغربي، ومحمد مالك بنونة، وأحمد المدني، وعمر السرغيني، ومصطفى الصباغ، والمهدي زريوح، ومحمد شبعة، وحسن التوزاني،…
شكلت مجلة “الحديقة” صوتا فريدا، مجددا، وأصيلا. كانت له مكانته وعناصر تميزه، سواء من خلال القضايا التي أثارتها مضامينه، أم من خلال لائحة الأقلام التي تواترت كتاباتها على صفحات الأعداد الخمسة للمجلة. لقد جمعت المجلة بين عمق التكوين الذي كانت تقدمه المعاهد الدينية بالشمال، وبين الانفتاح على معالم العطاء الثقافي والإبداعي المشرقي، ثم بين الرغبة في توسيع دوائر الكتابة الإبداعية نثرا ونظما، وتكييف كل ذلك مع مسحة دينية عميقة ومتحررة من قيود التقليد ومن مثبطات الجمود. لذلك، احتضنت شغب شباب المدينة المثقف، بعد أن حلقت به بعيدا في سماء الخلق وفي دهشة الإبداع وفي مفاتن الرقي. وفي ذلك، قيمة حضارية كبرى، جعلت من مجلة “الحديقة” إحدى منارات الفكر الحديث والعطاء الثقافي المميز لمعالم “النبوغ المغربي” داخل مدينة تطوان المعطاءة.
أسامة الزكاري