كنا نصعد من حيث كان محكوما علينا أن نقيم في تلك الجحيم التي لم نكن نعرف دنيا أخرى غيرها، بل لم تكن أحلامنا تصور لنا مسالك اخرى للعيش في سواها، رغم الهدوء الذي كان يعمها، فمع الجوع والحرمان من رغاب بسيطة كانت الإقامة فيها قاسية، وإن لم نكن نشهد إطلاق نار أو شبوب حرائق في غير أفران أو مجامر شديدة الحيوية، كان أهلنا هم من يوقدونها لأغراض حيوية، إلا أن كل ما ينتشر في هوائنا ، كان يدل على أننا في جحيم حقيقية ،
ولا أدري من أية جهة كان يصدر ذلك الوحي إلينا جميعا :
ـ أنتم في جنة، فلا تتأخروا في تأكيد هذا لأنفسكم، في صمتكم ومنامكم،،، أنتم في جنة ما لها من مثيل…أنتم ..أنت، فنقتنع دون كبير جهدٍ، ثم نصبح ونمسي مدافعين عن أننا في جنة الخلد مقيمون ، فخطواتنا كانت لا تستطيع الذهاب بعيداً، وإن لم تكن هناك أسوارٌ مرئية ، أو حدود مسيجة مانعة، غير الظلام الذي كان سرعان ما يلقي بسدوله علينا ، فيطوقنا ، فنسرع ونحن نكفكف من دموعنا، خشية الوقوع في شراك أغوال حدثونا عنها، فننقلب معجلين بأسرع ما تطيق أقدامنا ، التي كانت ترتعد فرائصنا منها ، فننادي على طرقات تبدو لنا ، كلما كـبُر خوفنا من أن نضل، بعيدة. بينما لم نكن قد فارقنا أحياءنا إلا بخطوات قليلة، لكن شيئاً كان يثقل على أرواحنا، وننوء بعبئه ونحن نشهق، بما يكاد يمنع أنفاسنا من خوف رهيب، ونحن نظن أننا بلغنا آخر الأرض، وما كنا ندري أين أولها: أفكان عقر منزلنا أول ألأرض أم مركز دنيا أم أعماق جحيم؟
***
ما سمعنا عن نعيم قط، ولا رأينا ظلال جنان ولا حدائق زاهرة ، إلا في تراتيل أو صلوات، والحقيقة أن أحلام أطفال منا كانت ترسم لهم أن النعيم قريب من أيدينا، إنما لا يمكن أن يصله إلا مغامرون، أو من لهم قدرة على الذهاب بعيداً عن البيت، وينبغي أن تكون أعضاؤهم قد كبرت، فيستطيعون العمل بها، أو الصمود أمام أهوالٍ أو مخاطر ليالٍ ، لم يكن يكثر في حياتنا سواها. حتى ألفنا الفرار من الوقوع بين براثنها ودجاها. فمن كان ينجو لساعد حظ كان يعود، ومن ابتلعته بكاه أهلها حتى يعفو عليه الزمن، ثم يمسي في الغابرين.
***
أنا لم أكن قد غادرت دائرتي الأولى في البيت، والحقيقة أن ما شببتُ عليه من جبن ، لم يكن شيئاً غير خوف أبويّ عليَّ، فلم أبعد يوما عن نظرهما ، إلا وعدتُ ، على قرب ما امتدت إليه خطاي، بتجربة جديدة، ومعرفة شيء جديد. فماذا لوأن جحيمي الأولى كانت أوسع قليلاً؟
***
فبعد الأسوار مباشرة، بعد أن جاوزتها على غرة من أهلي، وانا غِرٌّ صغير، رأيت موتَى وهم في بداية نزولهم إلى حيث يرقدون، ورأيت بشراً ينزلون من الغابات، والجبال وقد لفُّوا أرجلهم في جلد مواشٍ وأنعام مما يأكلون، كما رأيت معسكرات كانت تضج بوجوه بيضاء من دخلاء نزلوا بنا مما وراء البحر، وشوارع ترتعد من أوامر مشاة يمشون كطواويس، وكنت إذا وقفت لأرى مواكب ختان أطفال رأيت الأم تكشف عن فلذة كبدها لأحدهم حتى ينتزع منها ما يزعم أنه يطهرها منه، وليل البارحة ،غير بعيد ، ضجت أحلام منامي بمشاهد منها حيث كُنت خُتنتُ، لأستدعي في صباح اليوم التالي أجواق تردد أدكارأً، وترتفع أصواتها بأدعية وتلاوات، وأنا في كامل رشدي قد نسيت ما كان من فعل حلاق كان يجلس تحت نافذة ضريح، وامامه امتد صف طويل بأبرياء محمولين على أذرع، لا يعرفون إلى أين يؤخذون، اليوم ما زلت أعاني في جحيم من غياب من يخبرني إلى أين يذهب بي، هم أرادوا لي أن أكون من الساهرين على لوائح لا حرية لأهلي في ظلها ، وأنا كنت وسأبقى ، حالما بالخروج عن توصيات تلك اللوائح ، لذلك كان أن بلغت عني إشارات، إلى جهات، أن يفصل ما بيني وبينها.
***
يحلم البسطاء أن الجحيم نار مطلقة، وهم عن تصور الحقيقة محجوبون.
بينا رأيتُ في الجحيم ثلوجاً وأعاصير وموجات تعلو حتى تغرق كل ما تجاورُه.
وقد كان أن هاجرت بيتي الأول دون أن أقدر عن الخروج من مدار هذه الجحيم.
أحمد بنميمون