ضمن الأنشطة المدرسية لسنة ما، كان من المفترض أن يلعب التلميذ عبدالرحمان اليوسفي دور نادل في مسرحية تلاميذية، وكان عليه طبعا أن يهيئ ما يحتاجه الدور من أكسسوارات تمثيلية. وهكذا سيقوده أمر البحث عن بذلة بيضاء يؤدي بها دوره إلى خياط يوناني كان قد حل حديثا بالمدينة قادما إليها من فرنسا.. ولم يكن هذا الخياط غير والد هيلين.
لم يكن عبدالرحمان اليوسفي وقتها يتوقع أن الحياة تهيئه لدور أكبر من دور نادل سيصبح إثره رجلا وطنيا ذا صيت عالمي كسياسي بارز.
في هذه الظروف، حيث كان يبحث عن إكسسوارات تمثيلية، ستقوده الحياة إلى التعرف على رفيقة درب التي ستقاسمه أدوار مشواره السياسي الذي جرى على أرض الواقع وليس على خشبة المسرح. إنها “ماري هيلين”. حدث كل هذا عام 1947.
بعد فترة ستجمع صدفة أخرى عبدالرحمان اليوسفي بهلين حين دعاه الحاج أحمد بناني تاجر الأثواب بالجملة بالدار البيضاء لتناول العشاء معه، وهنا سيفاجأ بوجود هيلين وعائلتها ضمن ضيوف الحفل. وكانت مناسبة للتعرف عليها، وهناك بدأت القصة.
من أين تنحدر “ماري هيلين”؟
وفق ما جاء في مذكرات عبدالرحمان اليوسفي نفسه، “أحاديث فيما جرى”، فإن جد هيلين، كان يتاجر في البواخر بين تركيا وروسيا، و اشتداد تطاحنات الحرب العالمية الأولى، سيضطر الجد للرحيل خارج أرضه بعدما احتلها الأتراك، وتم تخييره وباقي اليونايين الأرتودوكس، بين التخلي عن ديانتهم حماية لثروتهم أو الرحيل، فتوجه جدها إلى فرنسا وهناك التقى ابنه بفتاة بمدينة ليون فتزوجا، ورزقا بابنة اختارا لها من الأسماء “هيلين”.
مرحلة خطوبة الايوسفي وهيلين ستطول، بل وسيتم تأجيلها أكثر من مرة، وذلك لأسباب سياسية محضة امتدت من الاعتقال الأول عام 1959 إلى الثاني عام 1963.
في باريس عام 1968، وبعد 21 سنة على التعارف، ستؤول العلاقة أخيرا بالزواج ، وسيبدئان معا مشوارا مختلفا يقول اليوسفي بلسانه: “إنها استمرت، لأن هيلين ضحت بالكثير واختارت الوقوف بجانب رجل كان ولعقود من الزمن واحدا من بين من وهبوا حياتهم للسياسة ومعاركها”.
لم تكن حياة عبدالرحمان وهيلين وردية تماما، إذ ستكللها العديد من المعاناة ولعل أبرزها اغترابهما الاضطراري بفرنسا، بعدما نصحته قيادة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بألا يعود للمغرب نظرا للدور الذي لعبه في محاكمة قضية اختطاف المهدي بنبركة التي جرت أطوارها في باريس يونيو 1967.
قبل عودتهما على متن باخرة سنة 1981 التقى اليوسفي، أخيرا، ومعه زوجته بوالدته، قبل أن يخطفها الموت بعد ذلك بعام واحد. وهكذا شاء القدر أن تتعرف على زوجة ابنها.
“ماري هيلين”، حسب شهادات الكثيرين، كانت “الساعد الأيمن” لعبدالرحمان اليوسفي، فقد كانت الرفيقة الدؤوبة سنوات تحمله مسؤولية رئاسة الحكومة، وكانت رفقتها أكثر حرصا وهي تراقب مقادير، وتراقب ملبوساته الرسمية والعادية، بل وكانت أيضا مستشارة سياسية جميمية له تبدي له بوجهة نظرها في أمور عدة كلما استطاعت ذلك.
لم تفارق هيلين اليوسفي بعد استقالته، بل اقترحت عليه برنامجا سياسيا من طبيعة إنسانية محضة يمارسان خلاله شغفهما بالحياة عبر المطالعة والأسفار والاستجمام وتقاسم تفاصيل صغيرة منحت البيت اليوسفي الزوجي طابعا رومانسيا. يشهد لذلك صورهما يدا في يد تطلق ابتسامتها الرقيقة وتنشر فرحها برفقة رجل حبه أشبه بمعركة حقيقية.
• عبد الإله المويسي