كتابات في تاريخ منطقة الشمال : “مبدعون في ضيافة المقهى”
الخميس 17 مارس 2016 – 16:38:53ّ
عـزّزت الكـاتبة “فاطمة الزهراء المرابط” حصيلة إنجــازاتها الثقافية، بإصدار عمل جديد رأى النور عند نهاية سنة 2015، وحمل عنوان “مبدعون في ضيافة المقهى”، وذلك في ما مجموعه 190 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. والعمل الجديد، استثمار عميق لمجمل الانشغالات الثقافية والإعلامية والجمعوية التي بلورتها الكاتبة المرابط، وخاصة داخل الإطار الثقافي الذي ارتبط باسمها وأضحى له صيت واسع ليس فقط بمدينة طنجة، ولكن – كذلك – على مستوى كل ربوع البلاد، يتعلق الأمر بطبيعة الحال “بالراصد الوطني للنشر والقراءة”. وإذا كانت الكاتبة فاطمة الزهراء المرابط قد استطاعت الإسهام – إلى جانب رفاقها في الإطار الجمعوي المذكور – في خلق دينامية ثقافية وإبداعية مثيرة ومتميزة، فإن ذلك قد جعل من “الراصد” إطارا ناظما للفعل وللمبادرة وللمواكبة وللنشر، بشكل لم تستطع “أعتى” الجمعيات والإطارات الوطنية المستفيدة من الريعين، المادي والثقافي، تحقيقه، رغم تباين الإمكانيات، ورغم سطوة الإعلام الموجه، ورغم الامتداد السرطاني لقيم الجحود والتنكر للأصوات “الأخرى”، وخاصة منها تلك المنبعثة من الهامش المنسي، بعيدا عن أضواء المركز وعن أخطبوطه التواصلي الرهيب والموجه. لقد استطاعت فاطمة الزهراء المرابط اختراق المرحلة بالكثير من عناصر الصبر والثبات والإباء ونكران الذات، وكانت النتيجة، ظهور معالم مشروع ثقافي وطني أصيل، مجدد ومبادر، حمل من الأسماء “الراصد الوطني للنشر والقراءة”.
وبالعودة للإصدار الأخير للأستاذة المرابط الصادر ضمن منشورات “الراصد“، يمكن القول إن الأمر يتعلق بمغامرة غير مسبوقة لاستكناه عتبات فضاء “المقهى”، بالنظر لقيمه السلوكية والثقافية والرمزية التي كان لها الفضل في إنتاج الكثير من تجارب فعلي الكتابة والإبداع، وطنيا وعربيا ودوليا. فالمقهى لم تكن – دائما – فضاءا لتزجية الوقت ولا محطة لاستراحة “المحارب اليومي” اللاهث وراء شغف العيش، بقدر ما أنها أضحت مكانا رمزيا لاشتغال العين السوسيولوجية الفاحصة لتغيرات القيم والمواقف والأفكار، أو لنقل إن المقهى أضحت نقطة التلاقي التي يمكن أن نقرأ من خلالها تحولات المجتمع، وأن نسمع عبرها أصوات التنافر أو التجانس التي يحبل بها الواقع، ثم نعيد تركيب السياقات والوقائع والرموز والأعلام في إطار نظيمة فعلي التأمل والتمثل، وهما من المقومات المركزية في الكتابة الإبداعية التخييلية الرحبة وكذا في الاستثمار النظري التشريحي للقضايا الفكرية التي تنتجها الذوات الفردية والجماعية.
ولعل هذا ما أدركته الأستاذة فاطمة الزهراء المرابط وعكسته بعمق في كلمتها التقديمية، عندما قالت : ” لم تعد المقهى فضاء يقع على هامش الحياة أو ملاذا لتبديد الوقت، وممارسة بعض الألعاب الشعبية المتعارف عليها ببعض المقاهي … إنما صارت عنصرا رئيسا في البنية العمرانية للمدن الحديثة، وأصبحت المدة الزمنية التي يقضيها المواطن في المقهى أكبر من مختلف الأزمنة الأخرى – العمل والبيت -، فأضحت المواعيد في المقهى يومية وقارة، إلى درجة أن المختصين في مجال الاقتصاد والهندسة والمعمار وجهوا اهتمامهم إلى دراسة ظاهرة المقاهي التي تتناسل يوما بعد يوم بشكل ملفت للنظر … لعبت المقهى دورا مهما في حياة الكتاب الإبداعية لتصبح شاهدا على مختلف العلاقات والأحداث والإبداعات بين مرتاديها من أصحاب القلم، كما لعبت أدوارا طلائعية في اكتشاف الفنانين ومد جسور التواصل بين المبدعين ورجال السياسة ومختلف الفئات الاجتماعية، ومنبعا لظهور عدة منابر صحافية … ” ( ص ص. 6 – 7 ).هي المقهى، إذن، مصـدر الإلهام ونبع التأمل وأفـق انفتــاح النخب على مجتمعاتها، الأمر الذي عكسته سلسلة الحوارات التي احتواها كتاب الأستاذة المرابط، مع مثقفين وكتاب من مشارب مختلفة داخل مشهدنا الثقافي الوطني والعربي الراهن، من أمثال أحمد بوزفور، وأبو الخير الناصري، ومحمد العناز، ومصطفى يعلى، وزهير الخراز، ومحمد الكلاف، والبشير الدامون، وعبد السلام دخان، وفاطمة الزهراء الرغيوي، ومصطفى الغرافي، ورشيد شباري، ومحمد كروم، وخليل الوافي، ومحمد البغوري، … وبطبيعة الحال، فإن توظيف فضاء المقهى لم يشكل، بين متن الكتاب، إلا انعطافة نحو عوالم الكتابة لدى كل المساهمين في العمل، من خلال أسئلة دقيقة ومركبة، حول سياقات تبلور التجارب وبروز الخصوصيات المؤطرة لفعل الكتابة لدى كل مبدع أو كاتب على حدى.
لقد استطاعت فاطمة الزهراء المرابط إعــادة إضفاء البعد الحميمي على فضاء المقهى، كما نجحت في أنسنته وفي الارتقاء به نحو سمو ملكة الخلق والإبداع والتخييل والتأمل. هي حوارات ثقافية بعمق سوسيولوجي واضح، وباستيهامات تمدينية راقية، لا شك وأنها تساهم في إعادة تحقيق التصالح المنشود بين الذات المبدعة من جهة، وبين وسطها المادي الذي يحتضنها من جهة ثانية. باختصار، فالأمر يمكن أن يشكل عنوانا لمشروع ثقافي مجتمعي بأفق رحب يؤسس لمجتمع المعرفة والآداب والإبداع والجمال، ضد مسخ المرحلة وضد زحف ثقافة الإسمنت البارد.