كتابات في تاريخ منطقة الشمال : “مجلة دار النيابة (5)”
الجمعة 10 فبراير 2017 – 19:28:54
صدرَ العدد الخامس من “مجلة دار النيابة” سنة 1985 في ما مجموعه 95 من الصفحات ذات الحجم الكبير، توزعت بين قسمين مختلفين، أولهما باللغة العربية وثانيهما باللغة الفرنسية. وقد حرص المشرفون على هذا المنبر العلمي الأكاديمي الرفيع، على الوفاء للتوجهات الكبرى في التواصل مع الباحثين ومع عموم المهتمين وفق ما تم توضيحه منذ صدور أولى أعداد هذه المجلة. لذلك، لم يكن غريبا أن تغتني “مجلة دار النيابة” مع توالي الصدور المنتظم لأعدادها، وأن ترسم لنفسها خطا واضحا في التعاطي مع مختلف القضايا الشائكة في تاريخ المغرب الطويل، أساسه شغف كبير بالتوثيق لحيثيات هذه القضايا، وأداته الانفتاح الواسع على تطورات حقول البحث التاريخي في أبعاده التخصصية الحصرية، وأهدافه إعادة تقييم مكونات ماضينا الجماعي وفق نظرة مجددة تتجاوز عقم ومحدودية عطاء الرصيد الأضخم من الكتابات الكلاسيكية المتوارثة.
ويمكن القول إن هذه الدورية قد نجحت في فرض اسمها إلى جانب مجلات رائدة في مجال البحث التاريخي الوطني، مثلما هو الحال مع مجلة “هسبيريس- تمودا” أو مع “مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط”. ولا شك أن هذه المكانة العلمية الرفيعة، هي التي جعلت “مجلة دار النيابة” تتحول إلى أحد أهم المراجع المعتمدة في دراسة مختلف تحولات ماضي منطقة الشمال، منذ العهود السحيقة وحتى مرحلة نهاية القرن 20، تاريخ توقف صدورها.
يحتوي القسم العربي من العدد الخامس من هذه المجلة على أحد عشر مادة علمية، إلى جانب افتتاحية عامة رسمت فيها المجلة الآفاق العريضة لمشروعها التنقيبي داخل “الغابة العذراء” للوثائق الدفينة التي طالما أغفلتها الكتابات الاستعمارية حول ماضي بلادنا. وفي باب “نصوص تاريخية”، اهتم محمد المنوني بالتوثيق لحدث ظهور “لسان المغرب” باعتبارها أول جريدة عربية ناطقة بلسان الدولة، وذلك استنادا إلى مضامين خمس وثائق غير منشورة.
وفي نفس الباب كذلك، نشر عبد المجيد الصغير دراسة حول “الطرقية” والعلاقات المغربية الجزائرية إبان السيطرة العثمانية، كما نشرت المجلة المجموع الثالثة من نصوص الظهائر السلطانية المنعم بها على الرهبان الإسبان بين سنتي 1637 و1794. وفي باب “دراسات وعروض”، ترجم كل من محمد الأمين البزاز وعبد العزيز خلوق التمسماني، دراسة لجرمان عياش حول ردود الفعل المغربية أمام الاحتلال الإسباني والفرنسي. وبمناسبة مرور ثلاثمائة عام على الجلاء الإنجليزي من مدينة طنجة (1684-1984)، قدم محمد المنصور دراسة حول الضغوط العثمانية وأثرها على تحرير الثغور المحتلة بالمغرب من خلال حالة مدينة طنجة. أما عبد المجيد القدوري، فقد اهتم – في مساهمته – بالكشف عن مكونات شخصية الثائر ابن أبي محلي مع التعريف برحلته الشهيرة.
وفي المحور المركزي لهذا العدد والمعنون ب”دراسات اجتماعية حول القبائل المغربية”، قدم محمد الأمين البزاز وعبد العزيز خلوق التمسماني ترجمة لدراسة لعبد الله حمودي حول الانقسامية والتراتب الاجتماعي والسلطة السياسية والولاية، استنادا إلى تشريح لمقولات كيلينر. كما نشر عبد العزيز خلوق التمسماني مجموعة من الوثائق المغربية الخاصة بقبيلة أنجرة وبعلاقاتها مع السلطة المركزية بين سنتي 1837 و1892، واهتم محمد أعفيف برصد أوضاع واحات توات في نهاية القرن 19 وبداية القرن 20، في حين قدم عبد القادر العبيد دراسة اجتماعية عن قبائل هوارة بين الأمس واليوم على ضوء عوامل الاستمرار والتغير. وفي باب “قضية ووثائق”، اهتم محمد الأمين البزاز بالتوثيق لحدث فتح إحدى الأبواب الجديدة بطنجة خلال فترة 1896-1897.
هذا بالنسبة للقسم العربي من العدد الخامس من “مجلة دار النيابة”، أما بالنسبة للقسم الفرنسي فقد احتوى
على دراستين مختلفتين في اهتماماتهما. في هذا الإطار، ساهم محمد المرابط بدراسة إحصائية دقيقة حول تطور السكان بالمغرب منذ بداية القرن 20، في حيم اهتم مصطفى النعيمي بتوضيح أهمية علاقات الرحل/ المستقرين في التطور التاريخي لمجموع اتحادية تكنة.
وبهذه المضامين الثرية، ساهمت “مجلة دار النيابة” في تعزيز موقعها داخل ساحة النشر الثقافي ببلادنا خلال مرحلة ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، كما ساهمت في تنظيم المواكبة العلمية لآخر المشاريع الأكاديمية التي كان يبلورها باحثو المرحلة المذكورة، سواء في إطار توجهات جامعية وطنية أم في إطار اهتمامات فردية أغنت رصيد المدرسة التاريخية الوطنية وتراكمها المعرفي المتميز. ولن نقدر أهمية رصيد منجزها المبادر، إلا باستحضار هول الفراغ القاتل الذي خلفه توقف صدورها عند نهاية القرن الماضي، الأمر الذي ترسخ بوفاة رائديها المؤرخ عبد العزيز خلوق التمسماني ومحمد الأمين البزاز. ورغم الضجيج التواصلي والإعلامي المهيمن على مجال تلقي المعارف التاريخية راهنا، لم يستطع أي منبر آخر سد هذا الفراغ ولا تطوير حصيلة منجز المجلة، وخاصة بمدينة طنجة وبعموم منطقة الشمال.