كتابات في تاريخ منطقة الشمال: “مذكرات حياة وجهاد: 2ـ حرب الريف”
يعتبر كتاب “مذكرات حياة وجهاد” للوطني الكبير محمد بن حسن الوزاني أخد أهم المؤلفات التاريخية التي سعت إلى التوثيق ل”التاريخ السياسي للحركة الوطنية التحريرية المغربية” منذ تبلورها قبل وأثناء فترة الحماية وإلى حين استكمالها للمشروع التحرري الذي توج بحصول البلاد على استقلالها السياسي سنة 1956. وإذا كان المعروف عن زعماء الحركة الوطنية ضعف أو انعدام اهتمامهم بتجميع وثائق هذه الحركة وكذلك أدبياتها التنظيمية والدعوية، فإن محمد حسن الوزاني يظل أحد القلائل الذين عنوا بهذه القضية، إذ سعى إلى نقل تجربته، من موقعه كأحد الفاعلين الأساسيين في مسار الحركة الوطنية ببلادنا، وتعميمها بين المهتمين والناشئة التي لم تعايش حدث الاستعمار، حافزه في ذلك تصحيح الأحكام الانطباعية والكتابات الوظيفية التي ارتبطت بالأهداف السياسوية الضيقة لمرحلة ما بعد الاستقلال السياسي، وبالاختلاف في اتجاهات الولاء السياسي بما أفرزه من نزوعات ضيقة لتطويع تاريخ هذه الحركة بشكل يخدم مصالح هذا الطرف أو ذاك. ولقد لخص محمد حسن الوزاني طبيعة أبعاد هذه الكتابات وكذلك سقف أمانتها عندما قال: “وتاريخ الحركة الوطنية المغربية لم يسلم، بكل أسف، من هذه الآفات، بسبب تهاون رجالها الذين تخلوا عن واجبهم نحوه، والإساءة إليه من الذين سمحوا لأقلامهم بالخوض في أحداثه ووقائعه، والعبث بحقائقه ومجرياته، فتعمدوا التقصير، والإخفاء، والتحريف، والتشويه ما شاء لهم هواهم، وتشيعهم وتعصبهم، مبرهنين على هذا بسوء مقاصدهم، وعدم الوفاء لتاريخ بلادهم وعدم أهليتهم للكتابة فيه بما يحق الحق، ويزهق الباطل، وهكذا سولت لهم أنفسهم –خصوصا بدافع التنطع الأعمى- أن لا يهتموا من تاريخ الحركة الوطنية إلا بما يوافق شهوتهم، ويخدم مصلحتهم، ويرضي عصبيتهم، فجاءت كتبهم الهزيلة الملفقة فاضحة لهم، وكاشفة لسرهم، ودالة على ضيق فكرهم، وضعف عقلهم، ولهذا قوبلت بما تستحق من الاستحقاق والانتقاد، وتعرضت بحق الإهمال والإعراض… وبهذا صورت حقيقة الحركة الوطنية في غير صورتها الكاملة، كما أضعفت شأنها… وهونتها في الأنظار بإظهارها كحركة أشخاص معينين دون غيرهم من رجال الإخلاص، والكفاح، والتضحية و”بنفخ” و”تضخيم” عدد من أولائك الأشخاص الذين رفعتهم إلى القمة، ونسبت إليهم “حظ الأسد” في النضال…” (مذكرات حياة وجهاد، ج. 1، ص ص. 7-8).
ووعيا منه بخطورة هذه المنزلقات على التراث النبيل للحركة الوطنية وعلى الذاكرة الجماعية لمرحلة النضال والكفاح ضد الاستعمار، فقد انبرى محمد حسن الوزاني لتقديم مشروع بديل سعى من خلاله إلى تقديم رؤى مغايرة، أساسها الجمع بين التوثيق للتجربة الشخصية/الجماعية للمؤلف، وبين التحليل النظري الرصين الذي يجد مرجعياته في العمق التاريخي الذي تعود أصوله إلى فترات زمنية طويلة سابقة عن حدث الاستعمار، ثم بين الانفتاح على جل الكتابات الوطنية والأجنبية الخاصة بالموضوع، وتوظيف كم هائل من الوثائق غير المنشورة، بشكل لا نجد مثيلا له في الكتابات الأخرى التي اهتمت بموضوع الحركة الوطنية المغربية. وبذلك، قدم محمد حسن الوزاني عملا ضخما في معطياته، عميقا في تحليلاته، ومتماسكا في بنائه وفي بنيته، بشكل جعله يتحول إلى أحد أهم مراجع الحركة الوطنية ببلادنا وأحد أبرز مصادرها التأسيسية.
وانسجاما مع الرؤية التي تحكمت في تركيبة هذا العمل، فقد عاد المؤلف –وبعد الجزء الأول التمهيدي الذي يؤرخ لمرحلة المخاض والنشوء- إلى إثارة موضوع حرب الريف، وذلك في الجزء الثاني من مشروعه، اعتبارا منه للقيمة الكبرى التي اكتستها هذه الحرب، ليس فقط في إثارة الشعور الوطني العارم، ولكن كذلك في رسم آفاق الاسترتيجيات التحررية على مستوى كل أقطار المغرب الكبير، ومعها مجموع الدول التي كانت تخضع لآفة الاستعمار خلال النصف الأول من القرن 20. لذلك، فإن دروس الثورة الريفية قد مارست جاذبيتها على كل رموز الحركة الوطنية المغربية، بعد أن ألهمت الحماس الشعبي المتدفق، وتحولت إلى نبراس خالد ظلت تشع منه كل قيم الوفاء والإخلاص والتضحية والجهاد. فليس غريبا أن تربط كتابات المؤرخين وكذا مذكرات الوطنيين بين نهاية حروب الريف التحريرية سنة 1925، وبين بداية المقاومة السلمية التي انبعثت من المراكز الحضرية الكبرى مثل تطوان وفاس وسلا، بل وليس غريبا أن يتم اعتبار هذه الحروب تبلورا جنينيا للفكر الوطني الحديث الذي أسس لقيم الحداثة والتقدم والديمقراطية، حسب ما عكسته الأدبيات السياسية التنظيرية لمرحلة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي.
واعتبارا لهذه الخصوصيات، فقد أعطى محمد حسن الوزاني لموضوع حرب الريف أهمية خاصة، بالنظر للتأثيرات والتأثرات المتداخلة التي حددنا معالمها أعلاه. وإدراكا منه لهذا الدور الحاسم في التأصيل لقيم الحركة الوطنية، فقد خصص المؤلف في الجزء الثاني من مذكراته، ما مجموعه 464 من الصفحات ذات الحجم المتوسط، توزعت بين اثنان وثلاثون فصلا، غطت مجمل القضايا والتقاطعات المرتبطة بجوهر الثورة الريفية. وقد انطلق في ذلك من التعريف بسيرة بطل الريف الأول الشريف محمد أمزيان، قبل أن ينتقل لإبراز ملامح الطابع الوطني التحرري للثورة الريفية. وفي سياق مواز، اهتم المؤلف برصد تطورات الأوضاع الداخلية بإسبانيا وظروف إعلان “جمهورية الريف” وانفجار المواجهات العسكرية بين قوات محمد بن عبد الكريم الخطابي من جهة، وجحافل الغزو الاستعماري الإسباني من جهة ثانية. وفي نفس السياق كذلك، اهتم المؤلف بإبراز انعكاس الهزائم على الوضع السياسي بإسبانيا، مع تتبع المساعي الدولية للثورة الريفية وانفتاحها على العالم الخارجي. وفي تطورها الداخلي، توقف المؤلف عند ظروف فتح الجبهة الغربية بعد فشل كل المساعي الدولية الديبلوماسية لإقرار الحق المغربي فوق الأرض الريفية، مركزا حديثه –بشكل خاص- على التعريف بشخصية الريسوني التي هيمنت بنفوذها وبسطوتها على كل المنطقة الغربية من شمال البلاد. وقد توقف المؤلف للكشف عن ملابسات مطالبة إسبانيا من الريفيين التفاوض لإقرار الصلح، كما فصل الحديث عن ظروف فتح الجبهة الجنوبية وإعلان الحرب ضد فرنسا، ثم عن خبايا مؤتمر وجدة ومفاوضات السلام مع الفرنسيين، قبل أن ينتقل للحديث عن التحالف الفرنسي الإسباني للقضاء على الثورة الريفية، خاصة عقب الإنزال الإسباني بخليج الحسيمة سنة 1925. وقد قاده ذلك إلى الاستفاضة في شرح أسباب الهزيمة الحربية للثورة الريفية وفي ظروف نفي محمد بن عبد الكريم الخطابي، وفي استبسال بقية مقاومي منطقة جبالة، وخاصة منهم المجاهد أحمد أخريرو.
ومن أجل فهم ما جرى، حاول المؤلف تفسير الأسباب التي دفعت بمحمد بن عبد الكريم إلى دخول حرب طاحنة ضد فرنسا، وإلى تفصيل الحديث عن أجهزة الحكم التي أقرتها الثورة الريفية، وكذا عن تنظيماتها المعتمدة، وعن حقيقة النظام السياسي الذي ساد في الريف زمن الثورة التحريرية، وعن علاقة “حكومة الريف” بالعالم الإسلامي، وعن أصداء قضية الريف داخل البرلمان الفرنسي وبين صفوف الأحزاب اليسارية الفرنسية، وعن أشكال تفاعل الدول العظمى مع قضية الريف، وعن أسباب توقف حروب الريف الجهادية بنفي محمد بن عبد الكريم، وعن تأثير فكر الثورة الريفية في النخب المدينية التي كانت قد شرعت في تأطير أنويتها التنظيمية بأهم مدن المملكة منذ مطلع الثلاثينيات من القرن 20. وفي الأخير، ألحق المؤلف بكتابه فصولا تكميلية احتوت على تصريحات لمحمد بن عبد الكريم، وعلى معطيات حول أدب الملاحم المرتبطة بالثورة الريفية، ثم على آراء وشهادات لمنابر إعلامية دولية بارزة حول تجربة محمد بن عبد الكريم.
وبكل ذلك، كتب لهذا العمل الانتشار الواسع وأكسب صاحبه الكثير من المصداقية والاحترام. فقيمة الكتاب تعكس أبعادا متعددة يكاد يكون من المستحيل الفصل أو التمييز بينها، بالنظر لتداخلها ولتكاملها ولقدرة صاحبها على تجاوز سقف إغراءات الكتابات التضليلية التي اشتغلت على تراث الحركة الوطنية ببلادنا. هي رؤية المناضل السياسي الذي خبر المحن وقاسى الصعوبات من أجل مبادئه وأفكاره. كما أنها رؤية المثقف الملتزم بقضايا شعبه، ثم رؤية الباحث المنقب الذي لا تهمه إلا تجلية الحقيقة التاريخية أولا وأخيرا، ببطولاتها وبإخفاقاتها. وبالجمع بين هذه الصفات، أمكن لمحمد حسن الوزاني جعل عمله هذا يصنف ضمن أهم الأدبيات المحورية القليلة في التوثيق لتجربة الحركة الوطنية خلال عهد الاستعمار، وذلك على الرغم من كل ما يمكن تسجيله، حول هذه القضية أو تلك، من ملاحظات أو هفوات. ولعل من أهم ما يثير في طريقة الكتابة لدى محمد بن حسن الوزاني، هيمنة ميزة احترام الغنى المعرفي الذي تقدمه “الوثيقة” التاريخية الوطنية والأجنبية، ثم طريقة ربط إشراقات الأجداد بانتكاسات الأحفاد وبتطلعات المستقبل. في هذا الإطار، يقول في الصفحتين 463 و464 ما يلي: “وقد اعتمدنا في عملنا هذا على كتابات مخطوطة لبعض رجال الريف المجاهدين، وكذلك بعض المصادر الأجنبية المهمة في الموضوع، وما تشتمل عليه سجلاتنا الخاصة من وثائق ومعلومات. وليس قصدنا تقديم تاريخ حرب الريف بالمعنى الكامل، فهو مازال يحتاج إلى البحث والتدوين، وإنما هو رسم لمحة، وإعطاء نظرة عن تلك الحركة التحريرية المسلحة في شمال المغرب… إن ثورة الريف التحريرية قد نفخت الروح في النفوس، وأحيت الضمائر، ومهدت السبل، ورسمت الاتجاهات للجيل الناهض، فالشعب مدين لها بما أحدثته من أثر فعال في نهضته الوطنية، وحركته السياسية، ووثبته التحريرية، وذلك في فترة المخاض ومرحلة التكوين اللتين لم تطولا سوى بضع سنين، ثم كان الانطلاق المنبعث من إرادة الشعب الذي صنع الأمجاد، وأتى بالمفاخر عبر التاريخ…”.
إنها رؤية ثاقبة لزعيم وطني من العيار الثقيل، آمن باستمرارية تجدد الشعور التحرري لدى الشعب المغربي، وبمصداقية دعوات ترابط وتكامل أشكال تمظهر هذا الشعور على امتداد تاريخنا الطويل. وبذلك، أثبت محمد حسن الوزاني أنه لم يكن مجرد رقم في المعادلات السياسية لمرحلة ما قبل الاستقلال وما بعده، مثلما هو حال قطاعات عريضة من نخبنا الراهنة، بل جمع في تناغم فريد من نوعه بين نبل الممارسة السياسية التنويرية، وبين التأصيل النظري العميق للقيم الإنسانية الكبرى التي قامت على أساسها مقومات الهوية الأصيلة للحركة الوطنية، فكرا وممارسة.
أسامة الزكاري