تقديم:
أدب الرّسائل، يتضمّن جوانب مهمّة تقتضيها الكتابة الحرّة، والموضوع المسترسل، ويتضمّن هذا الأدب إشارات علمية، وإفادات فنّية، وإنشادات معرفية…
وفي هذه السلسلة ندرج بعضاً ممّا توفّر لنا من أدب الرّسائل التي التحمت فيها أرواح علماء شمال المغرب. وندرج في هذه الحلقات مراسلات (صادرة وواردة) من الفقيه الصدر الأعظم أحمد الغنمية رحمه الله، والتي أمدّنا بها حفيدة الأستاذ الأديب المرحوم عبد السلام الشرتي.
-64-
[من الفقيه العلامة القاضي محمد المرير، سعادة الصّدر الأعظم السيد أحمد الغميّة جوباً عن سؤاله حول التّحية برفع اليد وما يتعلّق بها]
الحمد لله وحده وصلى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلّم
سيادة الوزير الأعظم، الصّدر المكين الأفخم، عالم الوزراء، ووزير العلماء، الشّريف الجليل، سيّدي أحمد الغنمية، أوصل الله أيّامكم بالحفظ والسلامة، وأجزل لديكم من المسرّات والمبرّات أكمل غاية، وسلام عليكم ورحمة الله.
وبعد، فقد حظيت كفّي باستلام مكتوبكم الفائق، وخطابكم الأنيق الرّائق، بأنّ أحد العوام تولاّه الله بكرامته، ومتّعه بفهمه الثّاقب ونباهته، وألفاه مجتهداً لاستخراج حقائق الأشياء بحسن تدبيره، ومستنطقاً لعجم الأفهام بدقّة نظره، وبقوّة تفكيره.
يستهدي مراشد قصير الإدراك عن لفظ السلام المتبادل بيننا مع ما ورد في قول الله تعالى: (وإذا حيّيتم بتحيّة فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها)، ولفظ تحيّة بصيغة النّكرة يقتضي ما يفهم غير التّحيّة المتعارفة بيننا، وكذلك المتعارفة الشائعة باندراج ذلك المفهوم في لفظ ذلك العموم، ويقرب هذا الفهم قوله تعالى فحيّوا بأحسن منها، فهل هذا اللّفظ على عمومه يخصّص بالوارد في كيفية السلام ومعرفته، لقول الصحابة رضي الله تعالى عنهم لسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف نصلّي عليك، أو يؤخذ من الآية الكريمة ما هو أعمّ من اللّفظ المتعارف، حتّى يسوغ سلام بعضنا على بعض، لما يفهم منه السلام بقرينة مفهومة من الحال لفظاً أو إشارة، أو الأمر في ذلك توقيفي لا يسوغ العدول عن اللّفظ المشروع فيه الخ
فلتعلم سيادتكم أنّ الذي عند كاتبه على قصور باعه، وقلّة اطّلاعه، أنّ رقّة هذا البحث تستدعي الكلام في موضوعين.
الأوّل: فيما تعطيه الآية بحسب المدلول اللّغويّ، وما هو المعوّل عليه في فهمها.
الثاني: هل المقصود في التّحيّة المطلوبة المعنى، فيحصل المقصود الشّرعيّ بالسّلام أو ما يفهم معناه بلفظ أو إشارة الخ
أمّا الموضوع الأوّل فإنّه لا يخفى على نباهة سيادتكم أنّ لفظ تحيّة في قوله تعالى: (وإذا حيّيتم بتحيّة) هو مصدر حياه تحيّة إذا دعا له بطول الحياة، ويستعمل في مطلق الدّعاء، هذا أصل معناه لغة.
وأمّا في الشرع فإنّه نقل إلى السّلام المتعارف. ويدلّ لذلك الكتاب والسّنّة، وكلام أهل اللّغة، قال تعالى: (تحيّتهم يوم يلقونه سلام)، وقال تعالى: (فسلموا على أنفسكم تحيّة من عند الله مباركة طيّبة).
وأخرج الطّبراني والبيهقي عن أبي أمامة قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: إنّ الله جعل السلام تحيّة لأمّتنا، وأماناً لهل ذمّتنا. وفي صحيح البخاري ومسلم: خلق الله عز وجلّ آدم على صورته، طوله ستّون ذراعاً، فلما خلقه قال: اذهب فسلّم على أولئك …
وفي المصباح: حياه تحيّة، أصله الدّعاء بالحياة، ومنه: التّحيّات لله، أي: البقاء، وقيل: الملك، ثمّ كثر حتّى استعمل في مطلق الدّعاء، ثمّ استعمله الشرع في دعاء مخصوص، وهو سلام عليك.
فإذا أردنا أن نفهم الآية الكريمة وقصرنا النّظر على المعنى التّركيبي اللّغوي، وجدناها تقول -والله أعلم-: وإذا حييتم بتحيّة، أي: إذا دعا لكم أحد بايّ نوع من أنواع الدّعاء من طول حياة ونحوها، فحيّوه أنتم بأحسن ممّا حياكم به، أي: ادعوا له بدعاء أحسن من دعائه، أو ادعوا له بمثل دعائه.
وإن نظرنا إلى الخارج، وعلمنا أنّ التّحيّة نقلت في الشّرع عن اصل معناها اللّغوي إلى معنى آخر شرعي، لأنّه أوضح، إذ الكتاب العزيز جاء لبيان الشرعيات لا لبيان معاني الألفاظ اللّغويّة، والشرع طارئ على اللغة وناسخ لها كما تقرّر في علم الأصول، وعليه، فكأنّ الآية تقول: (وإذا حييتم بتحيّة)، أي: ‘ذا حيّاكم أحد بتحيّة الإسلام، وهي السلام عليكم، فحيّوه أنتم بأحسن من تحيّته، بأن تزيدوا له الرّحمة، أو الرّحمة والبركة، وتقولوا: وعليكم السلام ورحمة الله، أو وبركاته، أو ردّوها، أي: قولوا له في الرّدّ: وعليكم السّلام فقط، مثل قوله، كما ورد بيان ذلك في الحديث، وعلى هذا، فالآية الكريمة خاصّة بالسلام الشّرعي.
وأمّا الموضوع الثاني: وهو هل المقصود من التّحيّة المطلوبة المعنى فيحصل المقصود الشّرعي بالسّلام أو ما في معناه من ألفاظ السلام العربيّة بلفظ أو إشارة، أو المقصود باللّفظ الوارد الخ
فالجواب: أنّه لا يعرف عن صحيح نظركم أنّ المطلوب في التّحيّة الشّرعيّة هو لفظ السلام، كما يرشد إليه تفسير الآية، وصرّحت به الأحاديث الصّحيحة، والطّلب فيه على وجه السّنية من المبتدئ كما عليه الجمهور، وقيل: على وجه الفرضيّة، وأمّا الرّدّ، فالاتّفاق على أنّه فرض.
فمن ابتدأ غيره وحيّاه بغير لفظ السّلام بأن قال له مثلاً: أنعم صباحاً، أو صباح الخير، أو مساء الخير، أو نحو ذلك ممّا هو متعارف، فقد خالف المسنون، وأتى بغير المطلوب، فهو على ما ذهب إليه الإمام البيضاوي داخل تحت إنكار قوله تعالى: (وإذا جاؤك حيّوك بم لم يحيّك به الله).
فإنّ أنعم صباحاً، أو صباح الخير، ممّا لم يحيّي الله به نبيّه صلى الله عليه، ونظراً لهذه المخالفة، نصّ العلماء على أنّ من أتى في التّحيّة بنحو هذه الألفاظ لا يستحقّ الجواب، وإنّما يحسن فقط. هذا إذا لم تكن لهذا المبتدئ نيّة قبيحة، أمّا إن كان قصده التّساهل بالسّنّة أو الازدراء، فهذا لا يرد عليه، إذ هو مريض الإيمان.
قال الإمام محي الدّين النّووي رضي الله عنه: إذا ابتدأ المارّ الممرور عليه فقال: صبّحك الله بالخير أو بالسّعادة، أو قوّاك الله، أو لا أوحش الله منك، أو غير ذلك من الألفاظ التي يستعملها النّاس في العبادة، لم يستحقّ جواباً، لكن لو دعا له قبالة ذلك كان حسناً، إلاّ أن يترك جوابه بالكلّيّة زجراً له في تخلّفه وإهماله السّلام، وتأديباً له ولغيره في الاعتناء بالابتداء بالسّلام.
هذا إذا كانت التّحيّة باللّفظ كما علمت، أمّا إن كانت بمجرّد الإشارة باليد أو بالانحناء، فذلك مكروه، وقد ورد النّهي عن ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي حديث أخرجه الترمذي: ليس منّا من تشبّه بغيرنا، لا تشبّهوا باليهود ولا بالنّصارى، فإنّ تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النّصارى الإشارة بالكفّ).
وأخرج هو وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله، الرّجل منّا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له، قال: لا.
لا زالت العلوم والمعارف بأبحاثكم العالية تتحلّى، وبأفهامكم الشافية يتّضح مشكلها ويتجلّى، والسلام عليكم ورحمة الله.
وكتبه في 18 جمادى 1 عام 1357هـ.
مجلّكم: محمد المرير
إعداد: يونس السباح