مع شعراء المغرب
10ـ الشاعر السيد محمد بن المختار العلمي
ابن مدينة شفشاون ” اللؤلؤة الزرقاء” المدينة التي أنجبت العديد من الأدباء والشعراء والمفكرين، الذين لمع نجمهم وسطع إشعاعهم في الكثير من الميادين والمجالات.
رأى النور بها عام 1927 م، نشأ في كنف أسرة تتصف بالعلم والتقى والصلاح ومكانة روحية؛ لاسيما أن جل أفرادها متشبعين بفن السماع والمديح، وعاشقين للتراث الموسيقي الأندلسي الأصيل.
تلقى تعليمه الأولي بضريح سيدي الحاج الشريف العلمي، ثم بالمعهد الديني. وعلى عادة أبناء جيله، كان يصطحب أباه إلى الزوايا والأضرحة، ونتيجة ذلك امتلأ صدره بكلام الله تعالى ، وألقى الله عليه محبة تلاوة الأوراد والأذكار، ولهج لسانه بمدح النبي المختار، فتفتحت قريحته الشعرية في وقت مبكر.
وفي سنة 1947، حط الرحال بالعاصمة العلمية فاس، بغية متابعة دراسته بالقرويين، والتي قضى في محرابها خمس سنوات، نهل فيها من أمهات العلوم على يد علماء وشيوخ أفذاذ.
عاد من جديد إلى مسقط رأسه، فامتهن التعليم بالسلك الابتدائي، وعيّن مدرسا بوجدة، ثم بعد ذلك بطنجة عام 1953م. فانتدب لتدريس مادة الأدب العربي بمدرسة المعلمين، وبعدها بثانوية ابن الخطيب. إلى أن تم تعيينه سنة 1966 م أستاذا لمادة اللغة العربية بإعدادية ابن بطوطة، التي كان يقدم فيها دروسا في الموسيقى بشكل تطوعي.
يقول المرحوم والدي الأستاذ عبد الصمد العشاب: ” اهتم الأستاذ والشاعر سيدي محمد بن المختار العلمي في فجر شبابه بالشعر الوطني الذي يسميه شعر النضال، كما اهتم بحفظ صنائع الموسيقى الأندلسية والأناشيد الوطنية. ومن ثم فهو شاعر فنان متذوق، وليس بشاعر مناسبات. وله مشاركات في المواسم الأدبية والمهرجانات الموسيقية والندوات الثقافية. ”
كان حضوره ـ رحمه الله ـ مشهودا على منابر عدة: إذاعية، ثقافية وفنية. فقد دبّج يراعه العديد من الدراسات [ دراسة بعنوان : مقدمة في التأليف اللحني في الموسيقى الأندلسية المغربية. قدمها في مهرجان جمعية بعث الموسيقى الأندلسية بفاس عام 1982م.] والأبحاث [ بحث حول إشكالية الإضافة الموسيقية إلى النوبات الأندلسية بصدد التعويض والترميم ـ ألقاه في حفل تكريم الأستاذ عبد اللطيف بن منصور.] وساهم في محاضرات [ محاورة حول دلالة مصطلحي الصنعة والشغل في النوبات الأندلسية ـ نشرت بالعدد الثاني لمجلة مواسم الصادرة بمدينة طنجة / محاضرة حول إنشاء العروبيات الزجلية النسوية بمدن شفشاون وفاس وتطوان / محاضرة بعنوان: الصنعة الأندلسية بين فاس وتطوان.] بعروض شتى [ عرض عن فن السماع بعنوان: مدارس فن السماع والمديح النبوي ـ قدمه في مهرجان فن السماع الذي نظمته جمعية أبي رقراق بسلا.]
وهكذا؛ فإننا أمام رجل مشارك، متعدد المواهب والعطاءات ، صاحب ذوق رفيع، وحس وطني متميز ترك بصمات بارزة في الساحة الثقافية المغربية.
كل من تعرف إليه، يشهد بأخلاقه الندية وسجاياه السنية، وهذا ما جعله محبوبا بين أهله وخلانه. يقول عنه الأديب الأريب سيدي محمد المختار التمسماني في كتابه ” أعلام وشخصيات بين التكريم والتأبين ” : ” فقد عاش بين الناس رضي الأخلاق، حليم الطبع، باسم الثغر، زينه قلب سليم ينبض نقاء وشهامة، وجمله صدر وادع يتدفق صدقا وصفاء، ونضّرته نفس زكية تتلألأ لطافة وعزة، وأفغمه لسان رطب ما جابه أحدا قط بقوارص الكلم…وتروق محياه تباشير المروءة والدعة، ونبالة النسب الشريف رحمه الله.”
ترجل عن صهوة الحياة فجر يوم الإثنين 21 أكتوبر عام 2019 م، بعد حياة مليئة بالإنجازات العلمية الجادة.
كان شاعرنا منذ صغره من عشاق القراءة، آمن بأن الكتاب هو أفضل جليس؛ فارتوى من معينه، ووجد فيه ضالته، وصقل موهبته، حتى صار ذواقا تواقا لنفيس الكلام.
يقول المرحوم والدي الأستاذ عبد الصمد العشاب : ” وذكر لي أن له ديوانا مخطوطا جمع فيه منتخبات أشعاره. ويقول عن تجربته الشعرية: هكذا خضت أول تجربة مع هذا الفن الأصيل الذي يسمى الشعر. اهتديت إليه أولا بفطرتي ثم بتذوقي. وازددت عشقا له حينما أدركت أنه من الفنون الجميلة المشتهاة للنفوس، وأمسيت من هواته المتشبعين به. وتجربتي معه كهاو هي التي أفسحت لي فضاءه الفسيح لأسبح في أجوائه مع المتيمين من عشاقه، ثم مع السابحين من شعرائه.”
وهذا ما يؤكده مترجمنا في قصيدة من تسعة وعشرين بيتا موسومة ب ” في خيمة القريض ” اقتطف منها هذه الأبيات :
إلى حضنها مذ تملكني | أصيل ثوابتها شدّني |
تلقّنت أنشودة الوطن | فطرت على حبه منذ ان |
أردده طالما شاقني | وهمت بإنشاده عاشقا |
وكم أشتهي ما يؤرقني | وأّرّقني قرضه المشتهى |
ثم يصف كيف خاض في صخب أمواج القريض يصارعها بثبات وحزم، إلى أن أصبح شاعرا مكتمل الأدوات، يعبر عن خوالجه ومكنونات نفسه:
أصارعها وتصارعني | فخضت بأبحره لججا |
ومهما طغى الموج لم أنثن | بقيت على متنها ثابتا |
شغفت به فوز ممتحن | إلى أن ظفرت وفزت بما |
أبث به ما يخالجني | وسرت على نهجه شاعرا |
ثم يأبى إلا أن ينتقي أطايب الكلام وأجوده، فتغدو قصائده قلائد مرصعة يهديها لبني وطنه في أبهى حلة:
وغض الشباب يحمسني | فكم من قصائد صحت بها |
وأهديتها لبني وطني | وكم من قصائد رصعتها |
كان رحمة الله عليه ودودا، وصديقا صدوقا، يبادل الناس المحبة والوصال، ويخلص لهم، ويثني على إنجازاتهم القيمة، بحروف ندية ومعاني راقية. وأصدق مثال على ذلك؛ قصيدته التي أهداها إلى الفاضل المختار محمد التمسماني، تحت عنوان: ” الصاحبان في أبهى الجنان “. يقول في بعض أبياتها:
ومعاناة ذلك الإنس | حيّ في الناس من تراه يعاني |
سعي هذا المكابد المتفاني | حيّ من ظل دائب السعي وآحمد |
يزكي بها دنى العرفان | وهو بين الرفوف يثري أماليه |
سخيا بالغض والرّيعان | واهبا من حياته أزهر العمر |
عليها في ساحة الإحسان | ناسيا نفسه كمن يؤثر الغير |
ولم يكن يبخل أبدا بحرفه وإحساسه على أحد من أصدقائه. فقد أكرم المرحوم والدي بقصيدة من خمسة وستين بيتا، بمناسبة تكريمه سنة 2009م بقصر مولاي عبد الحفيظ؛ يعبّر له فيها عن فرحته واعتزازه بأخوته وصداقته، ويلتمس منه أن يدعه يكرّمه بما يستحقه من ثناء وعرفان، كما يحكي فيها عن أجمل المواقف التي جمعتهما معا. وهكذا تبلورت هذه المودة، فأنتجت شعرا جميلا عذبا معنونا ب” دعني أحيّك يا أخي”:
يذكرني بأغلى الذكريات | وجودي اليوم في أرقى الجهات |
تحلوا بالخصال الساميات | ويجمعني بأوداد كرام |
فهم من جيرة النجب الحماة | أراني اليوم محسوبا عليهم |
ودودا أملي فيه ملهماتي | دعوني ألتمس منهم حميما |
يراه الأهل تكريما يواتي | أكرّمه مما يرضيه مما |
أخي العشاب إلا مبدعاتي | وليس لدي مما يرتضيه |
وكغيره من الشعراء الذين نظموا قصائد فجرتها مناسبات معينة، احتفى شاعرنا الفذ بقدوم شهر رمضان المبارك، وخطت أنامله نصا شعريا روحانيا من خمسة وخمسين بيتا، نشر بجريدة طنجة ، يزف فيه قدوم موسم الطاعات، باعتباره موسما جامعا للشمائل، مذكرا بأمجد الذكريات، صّدره بهذا العنوان: ” مع رمضان الأبرك ومزاياه وذكرياته المجيدة الخالدة “. يقول سيدي محمد العلمي في مقطع:
بمزاياه متحفا دنيانا | طالع مشرق الجبين حبانا |
وكالروح يفتق الريحانا | هب كالنفح منعشا ينفث العطر |
بهيّا ينوّر الأكوانا | يسكب النور وهو ينضح بالطهر |
يمحو الأوزار والأدرانا | حاملا مشعل الهداية في الأمصار |
واللطف والهنا والأمانا | حانيا ينشر الوئام يذيع الحب |
ولما كان ـ رحمه الله ـ متشبعا بأثر التربية الدينية التي نشأ عليها منذ صغره، انعكس ذلك على نظمه، وجادت قريحته بقصيدة موسومة ب: ” سر الجلال: الله أكبر” تشرق أنوارا ربانية، يستشعر القلب من خلالها تعظيم الله وهيبته، ويمتلئ بمراقبة جلاله، وتتبع أثره، وتلمس أسرار الخلق العظيم. يقول في بعض أبياتها :
أنت أوجدت فيه ما ليس يحصر | ربّ يا ذا الجلال كونك أكبر |
ما تراءى لنا وما ليس يظهر | أنت رب السماء أبدعت فيها |
ت لكون مداه ليس يقدّر | ساحة سادها سديم مجرا |
لا شمال ولا بناء معمّر | لا جهات تجدّه، لا يمين |
على العقل من عليه تجبّر | هو سفر لمحتوى دام يمليه |
|
|||||||||||
هكذا؛ وبعد هذه الوقفة مع شاعرنا الأصيل محمد بن المختار العلمي، تبيّن اتساع المساحة الشعرية لديه، وثراء معالمها المعرفية والأسلوبية.
وأختم بشهادة نجلته الفاضلة الأستاذة حنان العلمي ، التي لا شك أنها قد دوّنتها بمداد القلب، حيث تقول:
” عاش حياة الزهاد والنساك، غنيا بضميره وسريرته، ثريا بقربه إلى الله. وخرج من هذه الحياة كما دخلها، عفيف النفس، رافع الهمة، نظيف اليد، وهو القائل:
أو ترد صرفا لخطب | إن ترد كشفا لكرب |
إنه أقرب قرب | فارتقب رحمة ربي |
د. نبوية العشاب