اعتبر د. عزيز الحسين أن حسن الأمراني أكثر تشبعا باللغة الصوفية الدينية من أي شاعر مغربي آخر(شعر الطليعة؛ 352). هذا في وقت لم يكن الشاعر قد اتجه فيه للإسلامية بعد، أما حاليا فإن هذه اللغة الصوفية أكثر شيوعا في شعره من ذي قبل (تناولت الجانب الصوفي في شعره وشعري الرباوي وبنعمارة في أطروحتي للدكتوراه). وقد انتشرت هذه اللغة الآن، وبشكل جلي، عند كثير من الشعراء، بل إن منهم من تحولت لغته كلها إلى لغة صوفية، ولا نتحدث هنا بالضرورة عن التناص، وإنما عن التأثر، فقد اتضح أن التناص هو “الحضور الفعلي”، كما يقول جيرار جنيت، لنص في آخر. أما التأثر فمحاكاة والمحاكاة أوسع من التناص، وهي محاولة الشاعر قول ما يريد قوله على طريقة الصوفية. وبما أن لغة الشعر قريبة من لغة المتصوفة فقد “ارتاح” لها بعض الشعراء مثل محمد بنعمارة وعبد الكريم الطبال ومحمد الميموني. ولعل أكثر الشعراء المغاربة توسلا لهذه اللغة، ولكن مع تناص معقد، الشاعر أحمد بلحاج آيت وارهام، هَداه إلى ذلك اطلاعه العميق، ومعاشرته الطويلة لأقوال وأحوال وتجارب الصوفية. لا نريد أن ندرس هنا شعر الشاعر بقدر ما نريد أن ننبه إلى مساهماته الشعرية الجديرة بالاهتمام. وفي موضوعنا التصوف نفتح على سبيل المثال، مجموعته الشعرية “العبور من تحت إبط الموت” ونقرأ أول قصيدة فيها: “النجم الغرار” ونكتفي بإيراد ما يلي منها:
له الاسم منتشيا
وله ظبية الكشف
ترعى هديل الفيوضات
من سَكرة الصوت تنهض لحظته
كيف تضمره في المرايا الهواجسُ إِنْ مَسَّهَا؟
قـابَ قَوْسَيْنِ كان مِنَ الشطح
والرَّجمُ سبع شِدَادٌ
إليه يُفَوِّقُ…
غلقت الريح أبوابها…
لنستدل بها لا على لغة التصوف والتناص وعمق الاطلاع فقط، لكن أيضا وأساسا على المزج بين عناصر ألِف الشعراء أنفسهم تباعدَها وتنافرها، فهو لا يكتفي بأخذ صور ورموز المتصوفة كما هي، فيجعلَ الغزالة ترعى في الحقول، سواء كانت الحقول حقيقية أو مجازية؛ كقول أحمد مفدي مثلا على طريقة الصوفية في الصورة التالية (من قصيدة: “صهيل العشق والكأس زلاغ”، صهيل العشق؛ 95):
ما بينهما طرف غزاله
تمشي نافرة من مرعاها
وإنما يسعفه خياله فيحول هذه الصورة بمزج الحسي بالمعنوي والسمعي بالبصري دون أن يحيد عن المعجم الصوفي. فهو في تناصه مع الخطاب الصوفي (الظبية-الكشف-الفيوضات-السكرة-قاب قوسين-الشطح) يخضعه للغة الشعر فيجعل معجم هذا الخطاب يدخل في تراكيب جديدة لم يألفها ذلك الخطاب= “وله ظبية الكشف ترعى هديل الفيوضات“. بالإضافة إلى التناص مع القرآن الكريم في قوله تعالى:]أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى[ ( الإسراء؛ 110)، وقوله عز وجل:] ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى[ ( النجم؛9)، ثم مع قصة يوسف عليه السلام في السنوات العجاف التي أسندها الشاعر للرجم، وفي قصته عليه السلام مع امرأة العزيز حين غلَّقت الأبواب وقالت هيت لك. وقد أسند الشاعر هنا تغليق الأبواب للريح لا للرياح في صورة مفزعة (لأن الريح للشر، بينما الرياح للخير).
وقد طغت اللغة الصوفية في الآونة الأخيرة بشكل لافت كما نجد عند الشاعر عبد الكريم الطبال، ففي محاكاته للصوفية “لمحات” عميقة الدلالة كما في قصيدة بعنوان: “شهادة”:
أيها السابحُ
في قطرة ماء
أَغرِقْ نفسك فيها
حتى تشهدَ
شمس العشق
إذ يخاطب الشاعر فيها الإنسان وهو ما يزال كائنا بين الصلب والترائب أو ما يزال غيبا ويطلب منه أن يستشهد هناك غرقا حتى تتم له شهادة العشق الصوفي ويحقق هنالك ما يسميه القوم وحدة الشهود. وطلبُ الشاعر ذاك نابع من تقديره أن أقرب نقطة لهذا الفناء هو هذا الكائن الذي سيصبح إنسانا فيما بعد؛ لأنه هناك إنما جيء به من الكمال المطلق لينمو ويبتعد بنموه شيئا فشيئا عن هذا الكمال فينسى بطول المسافة والزمن أصله؛ فترتفع من ثم تكاليف العودة إن هو عزم على سلوك “الطريق” أو ارتقاء “المدارج” إلى هذا الأصل. ويرى الطبال في قصيدة أخرى أن هذه العودة ممكنة فقط عبر “المئذنة”، يقول ذلك في قصيدة “ذهاب الوقت” التي يهديها إهداء ذا دلالة خاصة إلى الشاعر محمد بنعمارة بما أنه شاعر إسلامي، هو بذلك يؤيد تصوره بأن طريق الخلاص بالنسبة للإنسان المعاصر هو الإيمان؛ يقول وقد استعمل رموز النور والطين والبرزخ (آخر المساء؛ 44-45):
مئذنة
على حوافِّ المنتهى
هي المشكاةُ
والسُّلافْ
وبستان الوردْ
في كل خفقة رياح
أو جناح
تعلن للأفلاكِ
والبرازخْ
والعاشقينَ
عن خروج الطينِ
ودخول النورِ
للصلاة السادسه.
ولعل شاعرا آخر هو أحمد الطريبق أحمد يعد في طليعة الشعراء الذين يعتمدون التناص بكل أنواعه وبشكل مكثف في شعره، ويحتل التناص مع النصوص الصوفية مكانا بارزا كما يظهر من ديوانه “هكذا كلمني البحر”، فبدءا من العنوان يواجهنا “البحر” بدلالاته المختلفة التي لا تغيب عنها الدلالة الصوفية إن لم تكن هي المقصودة بالأساس. على أن “الجزم” بذلك يحتاج إلى دراسة كاملة لهذا الديوان الغني. ونكتفي نحن هنا باقتطاف مقطعين من قصيدتين مختلفتين، على سبيل التمثيل، يوظف فيهما شعرا صوفيا لشعراء متصوفة يقول من قصيدة (“معلقة ما بين الجناحين”، هكذا كلمني البحر؛ 127-128):
1- استضافني يومَ ضَلِلْتُ الدربُ والسبيلْ
وغاب عن مدى سراب الوهم والعينين
حداةُ النور
في مواكب العشاق:
“ليت شعري هل دَرَوا أيَّ قـــــــلبٍ مَــــلــكوا
وفــــؤادي لــــو درى أي شِعبٍ سَلـكـوا؟
أتُـــــراهـــــــــــــمْ هــلـــــكــوا أم تُراهم سَلـــكوا؟
حار أرباب الهوى في الهوى وارتبكوا”
(والأبيات الأربعة أعلاه لابن عربي في ترجمان الأشواق 11 ومحاضرة الأبرار 2: 56).
نسيتُ ما نسيتُه وزَلَّتِ الغَوايةُ
التي في جُـبَّتي
اطَّرَحْتُها.. نزعتُها من جِلدتي
وكنتُ الشاعرَ الضلِّيل
يوم نحرتُ للعذارى
ناقتي…
فرسي…
غزالتي…
ومن قصيدة (“معلقة ما بين النهرين”، نفسه؛ 96):
2- وتقاطرتِ “الشدة” في العينين: بكاء.
في القلب دعاءْ
والحال لسانٌ
ولسان الحال بيانْ:
(اشتدي أزمةُ تنفرجي
قد آذن ليلك بالبَلجِ
وظلام الليل له سرُجٌ
حتى يغشاه أبو السرجِ)
ونكتفي بالإشارة في هذا التناص إلى حسن التخلص الذي أدمج به الشاعر هذا النص ضمن سياق نصه وكيف جعله ينسجم ويتجاوب تجاوبا دفينا مع نصوص مختلفة ضمَّنَها هذا المقطعَ بشكل موفق؛ فالشاعر يشكو ضلالَه “الطريقَ” حتى ما يتبينُ “حداةَ النور” ولو على سبيل التوهم، لما هو فيه من الصيصة الظلمانية، لكنه مع ذلك يحتفظ بحب من كان برفقتهم في الطريق وقد غابوا عنه الآن بقطعهم مراحل لا يستطيع تقديرها، فلا يملك غير الانتحاب بأبيات ابن عربي وتقريع الذات على النسيان والخطأ أثناء المجاهدة. ولا شك أن القارئ تستوقفه هنا كلمة “الجبة” لارتباطها بالقولة المشهورة للحلاج «ما في الجبة إلا الله» والتي ينبو عنها السمع كما يرى ابن خلكان(وفيات الأعيان؛ 140:2. وينظر التخريج الذي أعطاه إياها أحمد أمين في ظهر الإسلام؛ 60:2-61). ربما لأنها “تُشَيِّءُ” وتصغر الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، فيما تعظم قائلها الحلاج وتؤلهه، إلا أن الشاعر صرفها هنا عن هذا المعنى المحرج إلى معنى آخر يوافق مقصديته وهو التعبير عن ضلاله. ولما كان حديثه جاريا عن الضلال؛ فإن تناسل الخطاب عن طريق التداعي جعل الشاعر يستدعي الملك الضليل امرأ القيس مع تحويل قصته، إذ لم يربط الشاعر ضلاله بما كان يعتبره امرؤ القيس ضلالا أو بما كان يعيش فيه من ضلال، وإنما ربطه بما كان يعتبره من معالم الفتوة والفروسية (وهو نحره للعذارى ناقته)، فأحمد الطريبق حول دلالات العذارى لتدل على سلطان الجسد والضلال؛ والذي يفسر ذلك أن الشاعر لم يكتف بذبح الناقة أو حتى الفرس في حال الضرورة، وإنما ذبح لهن رمزا صوفيا عزيزا هو الغزالة؛ وذلك هو الخسران المبين.
وقد تناول محمد الشيخي قولة الحلاج السابقة ضمن رؤيا كارثية يقبل عليها الزمن العربي. فهو ينظر، بما يشبه النبوءة، إلى الصمت السائد على أنه الصمت الذي يسبق العاصفة. وفعلا فقد كانت “عاصفة الصحراء” جزءا موجعا منها ثم جاءت عواصف ما بعد 11 شتنبر ليبدأ عهد جديد من الكوارث. وقد جعل الشاعر الصمت إنسانا له جبة، وهذا تحويل أول لقولة الحلاج؛ ثم، وبفراسة الشاعر، أيقن أن ما تحت جبته ليس إلا السيف، مخفيّا لوقت “الشدة” على حد تعبير أحمد في لافتته “حكاية عباس”. وهذا تحويل ثان للقولة؛ يقول الشاعر من قصيدته (“غرناطة”، حينما يتحول الحزن جمرا؛ 7)، وبالمقطع أيضا (السطر الثالث) تناص خفي مع بيت المتنبي المشهور (الوافر):
ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسانِ
(شرح ديوان المتنبي؛ 384:4).
في هذا العصر القائظ
هذا الزمن العربي
صفيق الوجه غريب القول
ما تخفي فيه الجبة
إلا سيف القتل
والتحويل الثالث البارز كذلك هو أن الجبة هي التي تخفي السيف وليس الزمن العربي إمعانا من الشاعر في إظهار انقطاع الصلة البادي للعيان بين الزمن العربي والشيء المخفي = فهو يبدو كمن لا يخفي شيئا؛ وبذلك يكون المخفي أكثر خفاء، والأكثرُ خفاء يكون أشد صدمة وأقسى فتكا.
وقد أشار عبد الله راجع إلى تضمينه هو وأحمد بلبداوي إلى هذه القولة في شعريهما لكن بدون تحليل كاف (القصيدة المغربية المعاصرة؛ 41:2)؛ استعملها عبد الله راجع مع قولة أخرى للحلاج بدون تحويل وأضاف إليها عنصر “الشمس” الذي يقصد به “الحقيقة” في قوله من قصيدة (“الأرض الخراب تتمة حديثة”، الهجرة إلى المدن السفلى؛ 95):
هو ذا العشق ما في الثياب سوى الله والشمس يا سادتي فاقتلوني
ومعروف أن الحلاج كان ينادي في الأسواق بكلام، منه: «اعلموا أن الله أباح لكم دمي فاقتلوني…اقتلوني تؤجَروا وأسترح…» (“المنحنى الشخصي للحلاج”، شخصيات قلقة؛ 112) فيكون عبد الله راجع قد ضمن بذلك قولتين للحلاج كالمتقمص لشخصيته. أما أحمد بلبداوي فقد ضمن القولة نفسها في قصيدته “سبحانك يا بلدي” مع تحويل بيّن للقولة بإزاحة اسم الجلالة وإحلال “الوطن” محله مع تضمين لقولة البسطامي المشهورة “سبحاني سبحاني” (اللمع 472 وانظر الثابت والمتحول؛ 96:2-99)؛ يقول أحمد بلبداوي(سبحانك يا بلدي؛ 65):
سبحاني ما في الجبة إلا وطني يقرأ نعليه
ويمضي، ما في الجبة إلا بلدي…
وكلا الاستعمالين لا يتلاءمان والتصور الإسلامي؛ فالأول استعمل القولة مثل الحلاج حيث يصير الإنسان أعظم قدرا من الله. وكأن العرب قصدوا هذا الجانب من التعظيم في الكناية (ينظر: مفتاح العلوم؛ 407[1]) حين كانوا يمتدحون أحدا بقولهم: المجد في ثوبك؛ يريدون أن يحصروا المجد قيمة مطلقة في إنسان لا يتعداه فهو المسيطر عليه المتصرف فيه المتعالي عليه؛ قال المتنبي يمدح كافورا (شرح ديوان المتنبي؛ 158:1) [الخفيف]:
إن في ثوبك الذي المجدُ فيه لَضياءً يُزري بِكل ضياءِ
والثاني- بغض النظر عمن هو المتكلم في النص- يجعل الوطن/الوثن غايته ووُكده. على أن بلبداوي يستطيع أكثر من هذا. نكتفي هنا في نهاية هذا الفصل بإيراد “شهادة” فيه، من قبل د. عزيز الحسين: « يعمل بلبداوي، فعلا، بكل حرية، دون اهتمام بإبداء إيمانه بل لا يتردد في السخرية وفي استعمال لغة خليعة نوعا ما بجانب اللغة الدينية…وعندما يقول (قصيدة “إلى ابنتي فدوى”، سبحانك يا بلدي؛ 37-38):
بل ما يجدر أن يُعرف يا ابنتي أن العشق الحق
يميت. والأرض لكي تكمل دورتها تحتاج إلى
عاشق
في شكل الإجاصة.
استعمل بلبداوي مفردة “عشق” وهي لفظة حبيبة إلى قلوب الصوفيين، استعملها في صيغة كثيرة الانتشار في شعرهم خاصة: “إن العشق الحق يميت” ليوحي لنا بالتعلق الشديد بالأهداف الثورية التي يدعمها بصورة أقل ما يقال عنها إنها جريئة حيث الأرض الممثلة للأنوثة في حاجة إلى ذكر؛ إلى “عاشق في شكل إجاصة” على حد تعبيره، كي تكمل دورتها أو لتخصب. إنه يعمد في النهاية إلى رموز الصوفية نفسها لشحنها بدلالات منتهكة للحرمات على الأصح ومثير باستدعائها من أجل التعبير عن فكرة الأمل في بلوغ المرام، صورة جنسية بطريقة ساخرة. ومن هنا تصدم المثاليين المتعلقين بالمبادئ الدينية والأخلاقية» (شعر الطليعة؛ 353-354).
د. المختار حسني