ملامح من حياة الفقيه الصالح والعدل النزيه السيد محمد بن الحسن الخليع الأنجري ( 1382هـ / 1962م) (2)
الخميس 07 ابريل 2016 – 10:40:15
تلاميذه الآخذون عنه:
وعلى امتداد فترة ليست بالقصيرة تلمذ للفقيه محمد الخليع عدد لا يُحصى من الفُقهاء المدررين الذين اختلفوا إلى حلقته القرآنية من كل حَدب وصَوب، وجلَســـوا ينهلون من علمه ومعرفته الكبيرة بالقــرآن ورسمه، وتسنى لهم ختم القرآن كله و جزءًا كبيرًا منه بين يديه، ومن أشهر الآخذين عنه نذكر السادة الأفاضل الأجلّة:
الفقيه محمد بن الهاشمي البقاش (ت 1403هـ).
الفقيه أحمد الخليع الرماني.
الفقيه أحمد العاقل.
الفقيه عبد الكريم الحداد.
الفقيه محمد المفضل الرغيوي.
الفقيه عبدالسلام الشراط.
كانَ الفقيهُ محمد الخليع يتّصفُ بـأخـــلاق سُنية وخصال طيّبة، جعلته محبـوبــًا عند كل من لَقِيَهُ أو اتّصلَ به، مع ما كــان يتحلـّـى بهِ من كَــرَم وَجُـــود كبــيرين، فبيته كان مفتوحــًـا في وجهِ كل واردٍ على قرية الرّمــان، فكـــان يعتني بأحــــوال ضُيوفه ويسعف طلبة كل سائل حـــاجة، ويتَشفّع لبعضهم لَـدى ذوي السُلطـــان والقـــرار.
وقد حباهُ الله رحابة صدر، وصبرا كبيرا، وقدرة على إصلاح ذات البين وتأليف قلوب المتخاصمين، وذلك من خلال ما أوتي من مهارة في إقناع المتنافرين، وتمكن من مخاطبة كافة أطراف النزاع على قدر مستواهم الفكري، وكان يستند في ذلك على خبرته الطويلة وتجاربه في الحياة، وعلى درايته بفنون الحوار، وكان يستشهد بقصص من واقع حياة الناس، وبأمثال دارجة ذات مغزى هادف، وبآيات قرآنية، وأحاديث شريفة. ومازال الناس يذكرون له خطواته الموفقة في نزع فتيل الشقاق بين مريدي الزاوية الصديقية: في العرائش، وفي سلا، كما أثر عنه دوره الكبير في حل النزاع في شأن حدود مزارع بني واسين وظهر حمران.
ولأمانته ووفائه ولإخلاصه في الأعمال التي كان ينهض بها، وكّله صديقه قائد قبيلة أنجرة السيد محمد بن علي اللماغي (ت 1360هـ/1941م) ليكون نائبا عنه ويقوم مقامه في جميع عمليات البيع والشراء، و« قبضِ ما يجب قبضه لدا من كان وتعيّن»، «توكيلا تاما مفوضا عاما دواما واستمرارا»، حسب منطوق نص التوكيل.
شهادات معاصريه:
أفادتنا شهادات معاصريه على جلالة قدر الفقيه محمد الخليع، وعلى نبل الخصال التي كان يتحلى بها، كما أظهرت بعضها الحزم الذي كان يطبع جهده في ممارسة نشاطه التعليمي، وهي شهادات نطق بها بعض من خبر أحواله وتعرف عليه عن قرب، كتلك التي سجلها بعض شيوخه، أو أخرى صادرة عمن تتلمذ عليه.
ولعلَّ أشهر تلك الشهادات هي ما درج على البوح بها شيخه العلامة سيدي عبدالسلام بن عبدالقادر بن عجيبة في خطاباته إليه، وهي في مجملها تحليات جليلة، صادرة عن شيخ عارف، دالة على رفعة مقام التلميذ وسمو قدره ومنزلته، ومن الشهادات المعبرة التي سجلها شيخه في حقه ما يلي: « نجل الأخيار ومعدن الجود والافتخار أبو الفضل سيدي محمد الخليع أطال الله عمرك لنفع عباده » و« لا شك أنك عسل يشتفي بك كل عليل. فالله يجعلك دواء لكل علة ». وحلاه مرة بـ « صاحب الأخلاق المرضية، والأحوال الربانية، حتى إن الزمان حلف لا يأتين بمثله، وهو سيدي محمد الخليع». وسجل تلميذه الفقيه المقرئ محمد بن الهاشمي البقاش (ت 1403هـ/1983م) في مذكراته الشخصية انطباعا عن التحاقه بحلقة الشيخ الخليع في كتاب قريته، وأبدى صورا من حزم المترجم في مباشرة مهمته، مشيرا إلى تهجده في خلواته، وإقباله على مولاه بالطاعات. يقول الفقيه البقاش: «ثم أرجعني زوج أمي إلى كتاب الفقيه سيدي محمد بن الحسن الخليع إلى مسجد الرمان، حيث كان إماما راتبا هناك، وكان مكتوبا في لوحي: (وحرمنا عليه المراضع من قبل..)، ثم اعتنى بنا الفقيه الخليع من خلال إنصاته للسور التي استظهرناها. كان مهابا، يقوم الليل، وكان حازما مع التلاميذ».
أنجاله البررة جلهم من حفظة الكتاب العزيز:
رزق الفقيه محمد الخليع ذرية طيبة، وخلفا صالحا، وأنجال بررة، قرت بهم عينه يوم توجوا مسار دراستهم الأولية، بحفظ كتاب الله تعالى. وأي اعتزاز شديد وفخر أكبر كان يلمسه الوالد وهو يشهد تفوق أفراد من فلدات كبده ونخبة من أهل بيته في استظهار القرآن العظيم، ويشتغل بعضهم بتلقي العلوم على شيوخ كثيرين في ربوع قبيلة أنجرة، ويشد آخرون الرحلة في طلب العلم إلى جامعة القرويين بفاس، فكثيرا ما كان شيخه العلامة سيدي عبدالسلام بن عجيبة، يدعو له بصلاح العقب، وبأن تنال ذريته حظا موفورا من العلم والصلاح، قائلا:« فالله يجعل دارك دار علم وصلاح، أن يبارك الله سبحانه في عمرك حتى يقرأ كل واحد منهم، تفرح له، و تصلي وراءه، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير»
وهذه نبذة يسيرة في التعريف بأنجال هذا الفقيه الصالح:
1. محمد: ولد بقرية الرمان 1335هـ، استظهر الذكر الحكيم على ثلة من المدررين الفقهاء أشهرهم: الفقيه أحمد اعزيبو، والفقيه علي الصنهاجي، والفقيه الحناط الضرير. توفي رحمه الله سنة 1391هـ.
2. أحمد: ولد بقرية الرمان سنة 1336هـ، اعتنى بحفظ القرآن مبكرا وتسنى له إتمام استظهار القرآن على الفقهاء الذي تلمذ لهم شقيقه محمد. اشتغل بالتجارة فترة طويلة. انتقل إلى عفو مولاه سنة 1424هـ.
3. عبدالرحمن: رأى نور الحياة بحي أمراح من مدينة طنجة سنة 1340هـ، تلقى حفظ القرآن عن الفقيه علي الصنهاجي بقرية الرمان. زاول التجارة في دكان له بحي المصلى. كان من أبرز القيمين المعتنين بحقلة الذكر الحكيم بمسجد المصلى. توفي رحمه الله يوم الاثنين 20 محرم سنة 1437هـ موافق 2 نوفمبر 2015م.
4.عبد العزيز : ازداد في بيت العائلة بحي أمراح، عام 1349هـ، نال قسطا من التعليم القرآني بكتاب حومة بوقنادل، ثم انتقل إلى قرية الرمان وهناك لازم الفقيه علي الصنهاجي السنوات ذوات العدد حتى شدا في القرآن، وحصل علوما كثيرة من خلال ملازمته الطويلة للعلامة محمد بن عبدالسلام بن عجيبة (ت 1427هـ) في حله وترحاله، ثم شد الرحلة إلى فاس سنة 1370هـ، وانتسب إلى جامع القرويين ولازم الدروس النظامية، كما كان يختلف إلى الحلقات الاختيارية التي كان يتصدرها كبار علماء فاس، وخلال هذه المرحلة أفاد من معارف جمة، واتصل بالشيخ أحمد بن الصديق في إقامته الإجبارية بأزمور، واستفاد من مذاكراته، وأجازه الشيخ المذكور بمجموع مروياته، وانتقل إلى مدينة تطوان وتابع دراسته بالمعهد الديني وجلس إلى نخبة من مدرسيه، وحصل على شهادات علمية خولت الانخراط في سلك التعليم الذي قضى به فترة طويلة، كما ساهم في التوعية والارشاد الديني من خلال ما كان يلقيه من دروس الوعظ والخطب المنبرية. توفي رحمة الله عليه يوم الثلاثاء 10 ربيع الثاني 1424هـ موافق 9 يونيو 2003م.
5. عبد السلام : رأى نور الحياة بطنجة سنة 1350هـ ، تابع دراسته القرآنية على نخبة المدررين بقرية الرمان أمثال السادة الفقهاء: محمد الرغيوي، محمد الهاشمي البقاش، ثم انتقل إلى قرية عين حراث لإتمام استظهار القرآن الكريم، وختم سلكات أخريات على الفقيه العاقل الملقب بالباشا، وطمحت نفسه لتلقي العلوم الشرعية، فولى وجهته نحو قرية الزميج وهناك اتصل بالعلامة الفقيه الصادق البراج (ت 1383هـ/ 1964م) ولازم حلقاته العلمية وانتفع بالدروس التي كان يلقيها على طلبته. وفي سنة 1370هـ شد الرحلة إلى جامع القرويين صحبة أخيه عبدالعزيز، وانتظم في حلقات الدراسة النظامية، وعكف على التحصيل والإفادة من كل الشيوخ، كما تسنى له حضور الحلقات الاختيارية التي دأب بعض الشيوخ على عقدها في هذا المسجد أو تلك الزاوية. وإثر اضطراب الأحوال السياسية بالمنطقة السلطانية غداة نفي سلطان البلاد إلى المنفى سنة 1373هـ/ 1953م، عاد السيد عبدالسلام إلى مدينة طنجة وبها استأنف تحصيله العلمي على كبار شيوخ الدرس بهذه المدينة أمثال: العلامة الفقيه الحاج عبدالله بن عبدالصادق، والعلامة أحمد بوحساين، والفقيه محمد الصائل. وفي هذه المرحلة شرع في بيع الكتب وفتح محلا لهذا الغرض بالجوطية أطلق عليه اسم: مكتبة الفتح، ثم ارتبط بعالم المكتبات العمومية فالتحق سنة 1378هـ للاشتغال بمكتبة المعهد الإسلامي التي أحدثت يومذاك لتكون فرعا للخزانة العامة بالرباط، وانتدب بعد ذلك للعمل في مكتبة المعهد الأصيل بطنجة سنة 1391هـ، واختير بعد سنوات لتقلد مهمة قيم بعض المكتبات العامة بطنجة التي كانت أحدثتها وزارة الثقافة في بعض أحياء المدينة، منها: مكتبة العلامة أحمد بن عحيبة، ومكتبة العلامة العربي التمسماني. وآخر مكتبة عمل بها قبل إحالته على التقاعد هي المكتبة العامة بطنجة. بارك الله في عمر الرجل ومتعه بالصحة والعافية.
6. مصطفى : ازداد بمدينة طنجة سنة 1355هـ/ 1937م. ولما بلغ سن الدراسة، أدخله والده إلى كتاب قرية الرمان لتعلم القراءة والكتابة، ومتابعة الدارسة القرآنية، وهناك اختلف إلى حلقات الفقيهين المدررين: السيد العاقل، والسيد الرغيوي، وعلى يديهما ختم القرآن وضبط رسمه وأتقن روايته، ثم شد الرحلة إلى قرية واد أكلا، وبها أتم دراسته القرآنية واستفاد من بعض العلوم الأولية التي كان يقررها الفقيه الخمال. توفي السيد مصطفى رحمة الله عليه سنة 1433هـ/ 2012م.
7. عبدالحق : ولد بمدينة طنجة سنة 1364هـ/ 1945م، لما أدرك من العمر خمس سنوات، وجهه والده إلى كتاب قرية الرمان، وهناك تابع دراسته القرآنية وعكف على استظهار أجزاء القرآن بضع سنوات، إلى أن أتم الختمة بعد الأخرى، وشهد له شيخاه المدرران: الفقيه العاقل والفقيه الرغيوي بتمكنه من الحفظ الجيد. ثم تابع بعد ذلك دراسته في المعهد الديني بطنجة إلى أن حصل على شهادة الباكلوريا. اشتغل في مكتب استغلال الموانئ بطنجة وظل في عمله هذا إلى أن أحيل على المعاش. بارك الله في عمر الرجل.
8. عبد الواحد : ولد سنة بمدينة طنجة سنة 1365هـ/ 1946م، عند بلوغه سن الدراسة، ألحقه والده بكتاب قرية الرمان، وهناك لزم حلقات تحفيظ الذكر الحكيم التي تعاقب على الإشراف عليها الفقيهان الجليلان: العاقل والرغيوي. وبعد سنوات شدا في القرآن وتمكن من إتقان حفظه، ثم التحق بقرية واد أكلا، وبمسجدها تابع دراسته على الفقيه الخمال. ثم التحق بالتعليم النظامي، وانخرط في المعهد الديني بطنجة، وقضى به بضع سنوات إلى أن نال شهادة الباكلوريا. وباشر بعد ذلك أعمالا تجارية وكان مسددا فيها. آثاره: لم يكتب للفقيه العدل محمد الخليع أن يعتني بالتأليف والتصنيف، أو الاشتغال بالوراقة أو امتهان نسخ الكتب، وجهده على امتداد عمره الطويل انكب على التدرير ونشر المعرفة بالقرآن وأحكام رسمه، وتزكية النفوس وتهذيبها بالمواعظ الحسنة، والاشتغال بالتوثيق الشرعي. وكانت له فقط مراسلات مع علماء وفقهاء عصره، مست في مجملها جوانب اجتماعية كان يرغب في الحصول على فتوى في شأنها، محررة من أرباب الفتوى في قبيلة أنجرة، وقد جمع رصيدا لابأس به من نوازل المنطقة.
وفـاته ومقبره:
بعد حياة حافلة بتلقين المعارف القرآنية لأبناء قريته، وجهد متواصل في تنوير العامة بالأحكام الشرعية، وتهذيب نفوسهم بالمواعظ الحسنة، لبى الشيخ الصالح الفقيه العدل السيد محمد بن الحسن الخليع نداء ربه راضيا مرضياً بقرية الرمان، على الساعة الواحدة والنصف بعد الزوال من يوم الأحد 2 ربيع الثاني سنة 1382هـ موافق 2 شتنبر 1962م.
ووري جثمانه الثرى بالقرب من مسجد القرية الذي أفنى زهرة عمره في ارتقاء منبره أيام الجمع والعيدين، وأنفق مديد عمره في التدرير بكتابه. أسدل عليه المولى تعالى رداء عفوه ورضوانه، ورفع مقامه عاليا، وأجزل له المثوبة على ما أسداه لأمته من جليل الأعمال في مضمار الاعتناء بالقرآن الكريم وتلقين معارفه وهديه، وبث روح التآلف والأخوة بين الأفراد والجماعات. جعل الجنة مثواه مع الصادقين الأبرار، وحسن أولئك رفيقا. آمين