و أنا أنتهي من كتابة هذا العنوان، وهو في تقديري يلخص ما أريد أن أتحدث عنه في ظرف لا شك أنكم عشتموه أو عايشتموه، لم يكن لمفتاح حاسوبي الذي يطقطق بوتائر مختلفة، يقين أنه قادر على توصيف ما يفرحني شخصيا، فما بالك بما يفرح الآخرين؟ !، لكن صوتا داهمني من بعيد حثني أن لا أمعن في التفلسف كثيرا- و التفلسف شيء عظيم و لا يوجد في متناول من هب و دب- و أن أتحدث على سجيتي، فلكل خطاب صناعه و حرفيوه، فلأجعل من الحديث البسيط صناعتي.
الظرف الذي أحيل عليه هو الفرح العارم الذي ألهب العباد حتى وصلت حماه إلى بلاد المهجر، بعد انتصار منتخبنا الوطني في مقابلته ضد الشياطين الحمر في كأس العالم بقطر..
بمنطق الأشياء يبدو أن هذا الفرح فاجأ الجميع بغلوه، فالفريق الوطني مازالت أمامه أشواط طويلة لصناعة الفرح العصي و العاصفي، فنحن الآن لا نكاد نعبر الدور الأول للمجموعات -و إن كنا على أعتاب التأهل لدور الستة عشر- والفرح يبقى فيه عامة لدى جميع الجماهير المحبة لمنتخباتها معتدلا، يناسب سلم ما تم تحقيقه..
كيف سيكون فرحنا بعد التأهل للدور القادم أو الربع أو النصف أو الفوز بكأس العالم؟. سؤال قد يبدو خرافيا أو ميتافيزقيا أو مثاليا، لكن في كرة القدم كل شيء ممكن، وقد تنقلب الوضعية فيكون السؤال: كيف سنكون، بعد هذا الفرح العارم، لو انتكس منتخبنا- لا قدر الله- في التأهل للدور القادم، و هذا مستبعد جدا- أو خسر، بضربات الجزاء، في دور الستة عشر أو في الربع…؟ !
أحسست بشيء كالبرق يقترب مني؛ و جرني صوت من ذراعي، و قال لي فيما يشبه التوبيخ:
-آش كذقول أولدي !؛ هل تريد أن تلعب دور العساس ضد الفرح، مضيفا: الناس فرحون، ولهم الحق أن يفرحوا متى شاؤوا و كيفما شاؤوا..
أدهشني و كأنني تلقيت صفعة على نيتي الحسنة، وعلى امتثالي لدروس أساتذتي في استعمال الحس النقدي والتساؤل قبل تقبل الأشياء، و لم أجبه إلا بعد حين، قائلا:
-لا أحد يمكنه أن يمنع الفرح من الدخول إلى قلوب الناس، لا أحد يمنعه من الإشراق في وجوههم و التحول إلى زغردات، إلى صراخ، إلى أغاني، إلى أهازيج في الأزقة، إلى مظاهرات في الشوارع، إلى قلب السيارات و إضرام النار في الحاويات…، لكنني، فقط، أشفق على نفسي أنا الذي جرفني الفرح كما أشفق على الآخرين من جرعاته الزائدة…
رد علي بعصبية:
وليكن ذلك؛ فما المانع…؟ !؛ الفرح ليس محلولا دوائيا لنأخذه بالقياس، أجمل ما في الفرح أنه يأتينا بغتة، قد نطلبه و لا يأتينا و قد نستبعده فيهز أعماقنا، والفرح ليس مادة للمقارنة، فكل له طقوس فرحه وأسراره، و اليوم فرح و غدا…
أطلت علي صور الفرح و الفكاهة والسخرية إثر انتصار المنتخب السعودي الشقيق على المنتخب الأرجنتيني المرشح من بين المرشحين لنيل الكأس، و صور الجماهير في الملاعب و هي تصرخ فرحا عند غلبة منتخباتها أو تصمت و تبكي خيبة حينما تنهزم، وأحيانا ينقلب الأمر في دقائق معدودة…؛ تذكرت بعض التصريحات للفاعلين الحقيقيين من لاعبين ومدربين قبل المقابلات و بعدها… فوجدتها هي الأقرب إلى الاعتدال و التوازن والموضوعية، ثم أرخيت العنان لمخيلتي؛ فرأيت طوفانا من البشر يميل، كالموج، الحافلة المكشوفة للنخبة الوطنية يمينا وشمالا، والأصوات تتعالى: المغرب، المغرب…وأطلق أخيرا ذلك الصوت الخفي زغرودة تاريخية، أعقبتها كلمات كالسحر تذكرت منها أن الوطان في حاجة إلى جرعات زائدة من الفرح لمداراة الهموم و الأحزان، والتشوف إلى الانتصارات القليلة..
عاد عقلي إلى الأجواء الجميلة الذي تدور فيها بطولة كأس العالم بقطر، وروح الاحتفال الذي يجمع بين العرب و بين جميع البشر، ففكرت مليا كيف للعبة مثل كرة القدم أن تستطيع صنع الفرح الذي يقتله فينا، باستمرار، الأشرار الممجدون للحروب و المآسي و الأهوال… التي تجتاح العالم، وغنيت فرحا، والسماعات في أذني، في سكون الليل: هلا هلا هلا..
عبدالحي مفتاح