1 ـ الشاعر إدريس السناني المدعو الحنش
هو الفقيه النسابة، ذو العارضة الواسعة والنجابة، اللغوي الأريب، النحوي العروضي الحسيب. أديب عصره بلا نزاع، وشاعره المفلق بلا دفاع. السيد الحاج إدريس بن علي بن علي أيضا بن الغالي ين المهدي بن محمد بن الطاهر بن الرضي المالكي البكري السناني أصلا، الفاسي منشأ ودارا وقراءة ووفاة.
كان رحمه الله ذا أخلاق حسنة، وحالة مرضية، وهمة عالية. متقللا من الدنيا ، قنوعا منها باليسير، يلبس منها ما وجد، بعيدا عن التصنع، متخشعا ذاكرا، مكثارا للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم . لا تأخذه في الله لومة لائم، محبا للصالحين، زوارا لهم، يبذل المجهود في مدحهم بما تيسر له من موزون أو ملحون. على بال من أخبارهم موفيا، بيد أنه كان يخفي أمره تأسيا بشيخه أبي إسحاق سيدي إبراهيم الغماري. وحج وجاهد وانقطع لذكر الله مرارا، حضرا وسفرا، كما تحدث بذلك في كتابه ” رسالة التذكير”.
وأما محبته لآل البيت النبوي، فهم يقرون لهم بها. أخذ الطريقتين القادرية والشاذلية، كما بين في ذلك في كتابه ” نزهة الأعيان”. وكان بارعا في فن الإنشاء والمراسلات، مستحضرا لعلم السير، ذا فهم ثاقب، ولسان فصيح صائب. دؤوبا على سرد كتاب ” الوعظ” بجامع سيدي يعلى من طالعة فاس، وربما درس فيها العقائد وأحكام العبادات، فانتفع بذلك عامة تلك الناحية.
وألف تآليف منها: ” التنبه عن الغفلة في الحث عن العزلة ” و ” رسالة التذكير في بعض ما يجب على الفقير “. ومنها أيضا ” تأنيس المسجونين وتنفيس المحزونين ” و ” نزهة الأعيان وتبصرة الإخوان في تبيين ما بنى على مقام الإحسان” و ” الكبير والصغير ” .
ومنها تآليف في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على نسق دلائل الخيرات . ومنها ” المقامة المغنية عن المدامة ” في نحو نصف كراسة.
توفي رحمه الله بالحمى زوال يوم السبت 15 جمادى الأولى عام 1319 وعمره نحو الثلاث والستين سنة وصلي عليه بالمدرسة المتوكلية إثر صلاة العصر من يوم وفاته. ودفن خارج باب عجيسة قريبا من والديه وأقاربه، قبالة ضريح سيدي محمد بن الحسن على يمين الداخل لفاس.
يعتبر الشاعر إدريس السناني من الشعراء المغاربة الأفذاذ، الذين أبدعوا في قصائدهم، وعبروا فيها عما يروج في خواطرهم من مشاعر وأحاسيس مختلفة، اتجاه ذواتهم والمجتمع.
وسأقدم بين يدي القارئ ، مجموعة من قصائده ، مختلفة المضامين؛ ما بين وصف أحوال المجتمع المغربي على عصره، ووصف الطبيعة، ووصف فصل الربيع ، ورثاء فلذات الأكباد.
وقد اخترت قصائد تتناول بعض المضامين التي أشرت إليها سابقا. فمن ذلك قوله في استقبال الربيع:
قد ضم فيها للمنى شمل | لله حسن عشية طابت |
أنواره يا حبذا الفضل | في وادي فاس والربيع بدت |
يلفى له شبيه ولا مثل | فصل الربيع هو الزمان فما |
أجناده الأفراح والفضل | ملك من الفردوس وافانا |
غاب العنا والضنك والمحل | قد حل فينا ضاحكا طلقا |
ويقول واصفا الورد:
إذ قال حي على الخدود | الورد رغب في الورود |
فرحا لإحياء العهود | والياسمين تبسمت |
تحرق سوى ثوب الصدود | والجمرة اتقدت ولم |
بردا على تلك البرود | عجبا لها كيف اغتدت |
يغنيك عن ند وعود | وترى القرنفل بالشذى |
في القصيدتين معا، وصف للطبيعة في فصل الربيع حين تكون الأرض في موعدها مع عيدها السنوي. هذا العيد الذي حين يحل بين ظهور الناس، يغيب معه كل شعور بالعناء. وكيف لا يطيب الربيع للشاعر، وهو في فاس أرض الخضرة والجمال، وفي واديها الرائع بهجة هذه الدنيا ؟
وينتبه الشاعر لنفس الموضوع في أبيات القصيدة الثانية، فيصور لنا لوحة رائعة للطبيعة في هذا الفصل؛ لوحة تتضافر عناصرها لتشكل مهرجانا احتفاليا ضخما. تلك العناصر المشكلة من ثالوث الزهر بمختلف أنواعه: فالورد لم يكتف بحمرته، بل انعكست هذه الحمرة على خدود الحسان، فزانتها وكأنه يرغب فيهن ويبادلهن العشق.
والياسمين تبسم لإحياء عهد التواصل مع الناس الذي انقطع في الفصول الأخرى. والجمرة حين اتقدت، لم تحرق سوى ثوب هجرانها للناس هي الأخرى. ورائحة القرنفل الزكية، تغني الزائر عن كل رائحة طيبة أخرى.
والقصيدتان معا، تنطقان بشاعرية فذة، بما فيهما من خيال خصب. فالشاعر يحشد فيهما عددا هائلا من الصور الشعرية، لكي يقرب إلى القارئ صورة الطبيعة الرائعة من جهة، وإحساسه المتميز بوعتها من جهة ثانية. ولا تغيب عن ذاكرة الشاعر، أشعار الطبيعة الرائعة في أدبنا العربي؛وخصوصا في الشعر الأندلسي عند ابن خفاجة مثلا.
فواضح تأثر الشاعر بهذا العلم الأندلسي في حشدهما لعدد هائل من الصور الشعرية في أبيات قليلة، وهذا طبعا يتطلب مجهودا كبيرا من الشاعر ليطلق عنان مخيلته، مما قد يسقطه في بعض التكلف؛ وخصوصا في القصيدة الثانية. والحق أن هذا التكلف، لا يبدو واضحا أو مؤثرا على جمالية هذه القصيدة، وذلك حين عمد الشاعر إلى التفصيل في أنواع الزهور الموجودة في الحقول، وتتبع مظاهرها. وهو أمر لا نلفى له الكثير من الأشباه في شعر الطبيعة عند العرب القدماء، الذين يقتفي الشاعر خطاهم،إذا استثنينا بعض النماذج في الشعر الأندلسي.
إن مفهوم الشاعر للطبيعة في القصيدتين معا، يجعلنا ندرج هذا الغرض عنده في خانة الشعر التقليدي المتأثر بخطى القدماء. فالشاعر عكس الشعراء المحدثين الرومانسيين مثلا؛ تنفصل ذاته عن الطبيعة لتشاهدها وتصور جمالها تصويرا هو أقرب إلى التقل، وإن اصطبغ من حين لآخر بالطابع التخييلي عند الشاعر.
ومن قوله في رثاء ولد له اسمه المهدي:
لها أرج قد جاء من جنة الخلد | أيا وردة نعمت حولا بشمها |
إذا منحت خيرا تبادر للرد | لقد حسدتني فيك أيامنا التي |
وقد دك طود الصبر كامن الوجد | أزلتك من كفي فزلزلت الحجا |
فقابلت رزئي فيك بالشكر والحمد | علمت بأن الأمر لله وحده |
وكفر به الأوزار يا صادق الوعد | فيا رب ألحقه بصالح من مضى |
في هذه القصيدة الرثائية الجميلة، يعبر الشاعر عن شعور صادق بالأسى نحو وفاة ولده،. ذاك الذي كان يعطر حياته كأنه وردة من رياض جنة الخلد، فاختطفته أيدي المنون منه، حسدا من الأيام التي إن أكرمتك يوما، ندمت على فعلها فعاقبتك أياما.
وبموته طار صواب الشاعر، كما ذهب صبره. إلا أن روح الإيمان تغلب على قلب المؤمن؛ تلك الروح الدينية التي تبدو واضحة في القصيدة، سواء في خضوع الشاعر لأمر الله الذي لا مرد له، وشكره وحمده له في الرزايا كما في النعم؛ أو في دعائه لولده في نهاية القصيدة أن يلحقه بالصالحين ممن ذهبوا ليلاقوا وجه الله الكريم، ويجعل مصيبته فيه كفارة لذنوبه.
والقصيدة على صغرها جميلة مؤثرة، ابتدأها الشاعر بمطلع مؤثر أبرز فيه مكانة ولده في قلبه وكيف خطفته منه الأيام، ليصور بعد ذلك حالته بعد فقده، خاتما إياها بالدعاء الصالح للفقيد. وهو نفس القالب الفني المعهود في قصائد الرثاء القديمة.
ويقول في وصف حال المجتمع:
ولّى الأسافل بيننا أعلى الخطط | غلط الزمان وقد اشتط وما ضبط |
وحبا اللئام وكم لهم كفلا بسط | قبض النوال على الكرام كما ترى |
ولضده الحرمان والبغضا فقط | فالنذل يدرك رفعة ورياسة |
وأتى الصواب ولم يكن يوما قسط | يا ليته عكس القضية منصفا |
قصدا يميل وليس يمشي في الوسط | لكن زمانك كالحمار إذا مشى |
إن لم تكن في الوقت من هذا النمط | لازم أخي حمد الله وشكره |
واترك عتاب الدهر فهو من الغلط | وارجع إلى الله الكريم مفوضا |
في هذه القصيدة من الشعر الاجتماعي، يصور الشاعر حالة مجتمعه المتردية. هذا المجتمع الذي ان انقلبت أوضاعه فأسند عظيم أموره للئام، وبسط لهم الرزق والرفعة والرياسة، وما أنصف الكرام، فحرمهم كل هذه النعم واشتد عليهم وأنزلهم منزلة لا ترضاها نفوسهم الأبية. ويشبه زمانه هذا بالحمار في مشيه، الذي حتى وإن قصد إلى أن يمشي في الوسط فإنه يميل وينزاح.
إن موضوع هذه القصيدة، لا يجعلنا نسحب تصنيف التقليدي عن هذه التجربة الشعرية؛ اعتبارا لكونها تبتعد عن موضوعات المدح والهجاء والغزل وغيرها من الموضوعات التقليدية. فالقصيدة وإن كانت توجه انتقادا لأوضاع المجتمع الفاسدة، تبقى في حدود الانتقاد، ولا تحاول أن تضع يدها على مكامن الداء الحقيقية. كما تكتفي بنصح القارئ الكريم الخلال، بأن يتمسك بإيمانه ويسلم أمره إلى الله دون دعوته إلى النضال من أجل تصحيح الأوضاع، كما يتبدى مثلا في قصائد شعراء الثورة المحدثين أمثال محمد مهدي الجواهري، أو بدر شاكر السياب وغيرهما. فتعبر عن روح استسلامية، صوفية في عمقها، لا تبلور رؤيا اجتماعية واضحة.
ولا عجب في ذلك، فالشاعر على ما رأينا سابقا في ترجمته، متشبعا بروح دينية صادقة تزهد في الدنيا ومباهجها, ولعلنا نستطيع أن نعد ذلك موقفا اجتماعيا، ذلك أن أغلب شعراء ومفكري هذه الفترة زهدوا في المجتمع، حين لاحظوا اضطراب أوضاعه، فبدا واضحا روحه في إنتاجهم.
إن تصنيف التقليدي يبدو طبيعيا جدا، إذا ما عرفنا أن الفترة التي عاش فيها هذا الشاعر، هي فترة متقدمة لم تكن المدارس الشعرية الحديثة قد بدأت بعد في وضع أسس نظرة مغايرة جديدة للشعر، تجعله أكثر اقترابا من نبض الحياة الجديدة. فالشعر في عصر الشاعر، كان يتأثر بالنموذج الشعري القديم، ويعتبره نموذجا ينبغي الاحتذاء به، والسير على منواله والإبداع في إطاره.
وهذا الحكم طبعا، لاينبغي أن ينظر إليه على أنه يحمل مفهوما قدحيا؛ فالشاعر كما رأينا في نماذجه الشعرية، يعبر عن شاعرية متميزة، تجعله يخوض في مختلف أفانين القول المعروفة في عصره ويبدع فيها.
دة. نبوية العشاب