كتابات في تاريخ منطقة الشمال : ” نظرة عن تنظيم المجالات الإسبانية لما وراء البحار “
الجمعة 12 غشت 2016 – 17:53:43
يعتبر الخلاف الاستعماري بين فرنسا وإسبانيا حول اقتسام المصالح والنفوذ والامتيازات الترابية بالمغرب من بين أكثر قضايا تاريخنا المعاصر إثارة لاهتمام مؤرخي مرحلة مطلع القرن 20 بالضفتين المغربية والأوربية. وتعود هذه الكثافة في المادة المصدرية إلى ما كان للموضوع من حيوية شغلت بال رواد الأحزاب الاستعمارية في البلدين طيلة الفترة الممتدة من أواسط القرن 19 إلى نهاية مرحلة الحماية سنة 1957.
كما تعود هذه الكثافة – كذلك – إلى ما خلفته هذه القضية من انعكاسات بعيدة المدى على مستقبل ” الإمبراطورية الشريفة ” وعلى افتعال بؤر أزمات مستديمة لازلنا نعاني من جراحها إلى يومنا هذا. والحقيقة إن موضوع التنافس الفرنسي الإسباني حول المغرب يستحق أن يعاد بحثه برؤية مغربية خالصة تأخذ بعين الاعتبار آفاق الراهن لتحاول البحث عن إجاباتها في سجلات الماضي مادام هذا ” الماضي ” يظل – بكل تأكيد – سلاحا ديبلوماسيا فعالا وقادرا على الإجابة على الكثير من القضايا والمشاكل المفتعلة التي طوق الاستعمار الجديد بها عنق المغرب وجعله يؤدي ثمنها باهضا على حساب تنميته الاقتصادية والاجتماعية والبشرية.
يندرج التنافس الفرنسي الإسباني حول المغرب عند مطلع القرن 20 في سياق التسابق الإمبريالي الذي انفجر – بشكل ملموس ومباشر – عقب مؤتمر فيينا لسنة 1815 الذي أعاد ترتيب الخارطة الأوربية، فاتحا الباب أمام بلورة مشاريع تأمين ” المجالات الحيوية ” للقوى البرجوازية الصاعدة. ونظرا لموقع المغرب الاستراتيجي ولثقله التاريخي والجيوسياسي داخل إفريقيا والعالمين العربي والإسلامي، فقد أصبح محط مختلف الأطماع التوسعية للقوى الإمبريالية وخاصة منها تلك التي كانت تجاوره جغرافيا مثل إسبانيا أو تلك التي ارتبطت معه بعلاقات تاريخية مثل فرنسا. وبما أن مصالح فرنسا وإسبانيا كانت قد أخذت في الترسخ ببلادنا منذ عدة عقود ماضية، فإن كل طرف أصبح يعتبر نفسه الأحق من الطرف الآخر في الانفراد ب ” المسألة المغربية ” وفي تثبيت سياسة الأمر الواقع على المخزن من جهة وعلى مختلف القوى الأوربية المتنافسة من جهة ثانية. وقد اتخذ هذا التباري عدة أوجه التقى فيها العمل العسكري المباشر مع الضغط الديبلوماسي الكثيف ومع التغلغل الاقتصادي الممنهج، ثم مع سياسة تفكيك بنيات المجتمع اعتمادا على امتيازات ما عرف ب ” الحماية القنصلية “.
وفي كل هذه المناحي، نشط البحث ” العلمي ” الاستخباري محاولا مواكبة جزئيات ومستجدات هذه القضية، وبرزت أسماء كثيرة وهيآت مختصة ومنابر إعلامية كرست جهودها للدفاع عن طروحات دولها حول تدويل ” المسألة المغربية ” وآفاق الانفراد بالبلاد.
في هذا الإطار، اكتسبت المؤسسات الفرنسية قصب السبق في التنظير لمزاعم أوساطها الاستعمارية وفي الدفاع عن ” صوت فرنسا ” فوق الأرض المغربية وفي دحض ادعاءات وافتراءات ما كان يعرف آنذاك ب ” حقوق إسبانيا التاريخية بالمغرب “. ويمكن أن نعطي بعض الأمثلة عن هذا التوجه انطلاقا من رصد إصدارات ” نشرة إفريقيا الفرنسية ” – مثلا – أو إصدارات ” الاستعلامات الكولونيالية ” وكذلك إصدارات ” مجلة العالم الإسلامي “، إضافة إلى الدور الهام الذي قامت به – في هذا الإطار – ” لجنة إفريقيا الفرنسية ” التي كان مقرها بالجزائر حيث واظبت على تتبع مختلف الأنشطة والمصالح الاستعمارية الإسبانية بالمغرب وذلك منذ نهاية القرن 19 وإلى حصول البلاد على استقلالها السياسي.
والملاحظ أن المؤسسات الجامعية والأطر الأكاديمية الفرنسية العاملة بالمغرب، قد ساهمت بدورها في هذه التعبئة الاستعمارية ضد ” حقوق إسبانيا بالمغرب ” على الرغم من الاتفاق الذي كانت قد توصلت إليه الدولتان بخصوص تقسيم نفوذهما وفق ما نصت عليه معاهدة 27 نونبر 1912 ثم اتفاقية 18 دجنبر 1923 التي نظمت الإدارة الدولية لمنطقة طنجة. وبهذا التوجه، فقد تخلصت قطاعات واسعة من رجال الفكر الفرنسيين ” المغاربة ” من سطوة رجال الإدارة والجيش، وتجاوزت مختلف التسويات السياسية بين الحكومتين لتبلور وجهات نظر ظلت تشكك في أحقية هيمنة إسبانيا على جزء من الأرض المغربية. وحتى بالنسبة لمن حاول منهم التكيف مع الأمر الواقع، فقد كرس جزءا من طاقاته لتتبع مختلف أوجه الأنشطة الإسبانية بالشمال وبالصحراء، وكذا للتوثيق لهذه الأنشطة استخباراتيا وإعلاميا وأكاديميا.
في هذا الإطار، يندرج كتيب ” نظرة عن تنظيم المجالات الإسبانية لما وراء البحار” ( بالفرنسية ) لصاحبه كيي هيرود والصادر بباريس سنة 1954 في ما مجموعه 20 صفحة من الحجم المتوسط. والكتاب – في الأصل – دراسة سبق لمؤلفها أن نشرها على صفحات ” المجلة القانونية والسياسية للاتحاد الفرنسي ” في عددها رقم 3 الصادر خلال سنة 1954. وعلى الرغم من أن المؤلف لم يكن مؤرخا لا في التكوين ولا في الاهتمامات، بحكم أنه كان استاذا بكلية الحقوق بمدينة تولوز ومديرا ل ” مركز الدراسات القانونية بالمغرب “، فإن العمل يحتوي على العديد من الإحالات التاريخية التي تلقي أضواء كاشفة على الإطار القانوني للمسألة المدروسة. وتزداد هذه الملاحظة أهمية إذا علمنا أن المؤلف نجح في تكييف المعطيات القانونية مع السياقات التاريخية التي تحكمت في طبيعة العلاقات التي جمعت إسبانيا بمجموع مستعمراتها خلال النصف الأول من القرن 20. وقد استند في ذلك إلى رصيد وثائقي غزير استقاه من أبرز دور الأرشيفات الأوربية، كما استرشد بكتابات أجنبية متنوعة بشكل سهل عليه مهام إنجاز دراسته المقارنة المرتكزة على الحقائق الديبلوماسية والقانونية من جهة، وعلى المعطيات التاريخية الموجهة من جهة ثانية.
يحتوي الكتاب على مقدمة عامة حاول فيها المؤلف توطين أهم المستعمرات الإسبانية، مركزا على التعريف بالمصادر الوثائقية والبيبليوغرافية التي اعتمد عليها في إنجاز هذا العمل. وفي الفصل الأول، قدم المعطيات الأساسية لدراسة وضعية مستعمرات إسبانيا بمنطقة شمال إفريقيا، مركزا على ضبط الحدود الجغرافية للمنطقة المدروسة، ومعرفا بظروف تعرضها للاحتلال، من خلال العودة للتذكير بملابسات الغزو الإيبيري لشمال المغرب خلال القرن 15 م، وكذا من خلال التذكير بمختلف أشكال الضغط العسكري والديبلوماسي التي بذلتها إسبانيا على امتداد القرن 19 مستهدفة سلخ أجزاء ترابية من شمال المغرب. وقد توسع المؤلف طويلا في رصد النظام الخاص الذي كانت تخضع له ما كان يعرف بمنطقة ” شمال إفريقيا الإسبانية “، وخاصة على مستوى خصوصياتها الاقتصادية وعلى مستوى تميز تنظيماتها العسكرية والإدارية، موضحا – بدقة – أشكال تقاطب مدن الشمال مع الميتروبول الاستعماري الإسباني وذلك في تعدد أشكال هذا التقاطب وفي اختلاف مراميه.
هذا بالنسبة للفصل الأول من الكتاب، أما بالنسبة للفصل الثاني منه، فقد خصصه المؤلف للتعريف بالمعطيات الجغرافية والتاريخية وبالتنظيمات الإدارية الاستعمارية الإسبانية بإفريقيا الغربية وخاصة بالمنطقة التي كانت تعرف تحت اسم ” الصحراء الإسبانية ” وكذا بمنطقة إيفني. وبالنسبة للفصل الثالث، فقد رصد فيه المؤلف نفس هذه الخصوصيات بمنطقة خليج غينيا مبرزا أوجه التشابه بين ما أنجزه الإسبان بشمال المغرب وبين ما قاموا به بهذه المنطقة النائية من القارة الإفريقية. وفي كل ذلك، ظل هاجس الباحث يتمحور حول ضرورات إبراز تفوق ” الإيديولوجيا الفرنسية ” القائمة على أساس ” احترام ” حقوق الإنسان لدى الشعوب الخاضعة، مقارنة مع التوجهات الشوفينية الوطنية الضيقة التي ميزت تجربة الاستعمار الإسباني خلال القرن 19 وعلى امتداد النصف الأول من القرن 20.
وعموما، يبدو أن كيي هيرود قد نجح في تشريح المرتكزات القانونية والتنظيمية / الإدارية التي قام عليها التدبير الاستعماري الإسباني للمناطق المذكورة أعلاه، رصيده في ذلك ثقافته القانونية الواسعة وانفتاحه على وثائق ومصادر مختلفة الاهتمامات بشكل سمح له بحصر جوانب الظاهرة المدروسة في إطارها الصحيح المرتكز إلى الخلفية التاريخية وإلى نصوص المعاهدات والاتفاقيات والقوانين الإدارية التنظيمية ذات الصلة ب ” الأراضي الإسبانية ” لعالم ما وراء البحار، وبشكل خاص تلك المنتمية منها لمنطقة شمال المغرب. إلا أنه – ومع الأهمية الأكيدة لهذا العمل-، فإن الثغرات التي وقع فيها صاحب الكتاب تظل صارخة وتقيم الدليل على أخطاء الفرنسيين في تقديرهم لأدوار الاستعمار الإسباني لبلادنا، مما جعلهم يقعون في شرك الأحكام السريعة التي تستجيب لمطلب تدعيم ” مصلحة الوطن ” أولا وأخيرا، بما لذلك من انعكاسات سلبية على القيمة العلمية لمثل هذا النوع من الدراسات. وإلى جانب هذه الروح الطافحة التي هيمنت على صفحات الكتاب، فإن ثغرات عديدة ظلت تكتنف هذا العمل، ومن أهمها إهمال المؤلف – بشكل كلي – للوثائق المخزنية المغربية بالرغم من أهميتها القصوى في هذا المجال، إلى جانب كون العديد من التخريجات قد أصبحت متقادمة – الآن – بحكم التطور الذي عرفه مجال البحث التاريخي الذي جعل من ” المسألة المغربية ” مجالا للبحث وللاشتغال
وإذا كانت هذه الملاحظات قد مست في العمق بالكثير من الخلاصات الجاهزة التي يقدمها الكتاب، فإن هذا المجهود يظل – مع ذلك – متضمنا لمعطيات تحليلية قانونية يمكن أن تفيد كثيرا المهتمين بالتوثيق للتاريخ الاستعماري الإسباني بالمغرب شريطة الانتباه للهفوات المنهجية المشار إليها أعلاه، وشريطة تصحيح الوقائع المضطربة وغير الدقيقة المرتبطة – أساسا – باضطراب بعض السياقات التاريخية وكذا بالخلل في توطين المواقع الجغرافية للمناطق المعنية بالدراسة، وخاصة منها تلك المنتمية لمنطقة شمال المغرب.