التعريف بالدكتور هشام العجاج.
هشام لعجاج من مواليد مدينة فاس سنة1977، حاصل الإجازة مسلك الفكر الإسلامي والفلسفة سنة 2012 كلية أصول الدين بتطوان التي كانت تابعة لجامعة القرويين، ثم على ماستر الأدب العربي في المغرب العلوي: الأصول والامتدادت سنة 2014 من كلية الآداب والعلوم الإنسانية تطوان التابعة لجامعة عبد المالك السعد ي وعلى دكتوراه في الآداب: النص الأدبي العربي القديم سنة 2018 من نفس المؤسسة.
أستاذ لمادة اللغة العربية بسلك الثانوي التأهيلي وهو أستاذ متطوع بماستر الأدب العربي في المغرب العلوي، كلية الآداب تطوان.
له عدة مشاركات علمية منها:
- ملتقيات لسان الدين بن الخطيب حول التنمية البشرية، شفشاون الدورتان الثالثة والرابعة. شفشاون 2015 و2016.
- ندوة دولية في شفشاون حول “الأمن الروحي والسلوكي ودورهما في تهذيب النفوس ومكافحة الغلو والتطرف العنيف”، شفشاون مايو 2017
- الملتقى العالمي للتصوف الدورات 12 و13 و14 بمداغ 2017: مشاركة في تأطير ورشات الجامعة المواطنة؛ 2018 مشاركة بعنوان: رؤية قرآنية للمشترك الإنساني: تفكيك نماذج دالة؛ 2019 مشاركة موسومة ب”التنمية البشرية بين قصص القرآني والتنزيل الإحساني
عاش حينا من الدهر بمدينة شفشاون فسكنه حبها وأصبح مشغولا بتراثها المحلي ورجالاتها الصالحين يحدوه في ذلك توجهه الروحي الذي جعل منه ذائقا لحلاوة المدينة ونفحاتها.
تقديم الكتاب:
- الغلاف
الغلاف مزدان بصورة الشيخ سيدي المفضل أزيات يعلوها عنوان الكتاب وهو: “ديوان أبي الفيض المفضل أزيات الخرشافي الحسني (ت 1360ه)”، ويليه اسم صاحب التحقيق والدراسة الدكتور هشام لعجاج وصاحب التقديم أستاذنا الدكتور عبد اللطيف شهبون حفظه الله تعالى، وصاحب مراجعة الديوان أستاذنا المرحوم الدكتور محمد مفتاح جعل الله أعمال الجميع في ميزان حسناتهم، آمين.
والحديث عن الصورة يدفعني لأن أحكي طريفة وقعت لي عند استلامي نسخة الكتاب وعودتي إلى المنزل حيث أخبرت والدتي حفظها الله بأن الكتاب إنتاج لأخي وصديقي هشام، وهو متعلق بالشيخ المفضل أزيات، فما كان منها إلا أن أحضرت لي صورة من صندوق فيه ما قدم في بيتنا متسائلة: “هُوَ هَذَا؟”
كانت صورة بالأبيض والأسود للشيخ عمرها يزيد عن الستين سنة، والمفاجأة الجميلة أنها نفس الصورة المطبوعة على الغلاف بعد تحليتها بالألوان. وقد مكنت منها الصديق الدكتور هشام لعجاج.
وبعد الاسترسال في الحديث معها علمت ما أكد لي وجود علاقة روحية راسخة بين جدي سيدي عبد الكريم الهراس المؤذن وبين الشيخ المفضل أزيات.
- الكتاب
يقع الكتاب في أربعمائة وست وتسعين صفحة، في بابين؛ باب أول للدراسة وباب ثان للمتن الشعري المحقق.
يتكون الباب الأول من مقدمة وفصلين؛ فصل أول لملامح من السيرة الشخصية والتأليفية للشيخ أزيات، وفيها حديث عن حياته ورسائله وتقييداته وشعره؛ وفصل ثان لرصد ظواهر وقضايا في المتن الشعري ومنها المعجم والتركيب والصورة والإيقاع. فيما يشغل المتن المحقق الباب الثاني مسبوقا بمقدمة التحقيق.
والملاحظ أن التحقيقَ الذي قام به الباحث تم وفق متطلبات منهج تحقيق التراث، والخطواتُ العملية التي صرح بها في مقدمته تشهد بذلك، فقد قام المحقق بجمع النسخ وترتيبها، واختيار النسخة الأم معللا استعاضته عن نسخة بخط يد المؤلف واستعانته بنسخة أخرى بخط يد حفيده، بكون الأولى لا تضم سوى خمسة عشر نصا، ووصف مخطوطات الكتاب التي اعتمد عليها مع ذكر اسم الناسخ والمقاس و المسطرة والورق والخط، مقدما صورا لها واصفا منهجية العمل عند تخريج المتن، من ضبطه وترقيمه والتعليق على بعض النكات المهمّة، ووضع الحواشي التي تتضمن الإشارة إلى اختلاف نسخ المخطوط، وتصحيح الأخطاء، وبيان مصادر النصوص من آيات قرآنية وأحاديث نبوية وأشعار وغيرها، والتعليقات والشروح الضرورية، والشواهد وترجمات الأعلام وشرح المصطلحات والمفردات الصعبة المبهمة.
ليقدم فهارس ميسرة لتناول الديوان مثل فهرس الآيات القرآنية والأبيات الشعرية وفهرس الأعلام والأحاديث النبوية ومصادر التحقيق والمحتويات وغيرها.
هذه الخطوات والمراحل التي قطعها عمل الدكتور هشام في هذا الكتاب دليل حقيقي على الجهد العلمي والنقدي الذي قام به متحليا بأمانة علمية مشهود له بها أسهمت في الرفع من قيمة هذا العمل النفيس الذي لقي إشادة من اللجنة العلمية المباركة التي أشرفت على فحصه وتحكيمه ومناقشته.
وتنضاف إلى القيمة المنهجية الأكاديمية المتميزة لهذا العمل، أهمية الموضوع الذي تناوله الدكتور هشام. فقد اشتغل على تراث منطقة الشمال الذي يحتاج إلى مزيد البحث والتنقيب لإبراز مكنوناته وكنوزه.
وللدكتور هشام نهج استراتيجي متميز صاحب من خلاله الشيخ المفضل أزيات منذ سبغه عوالم البحث العلمي فابتدأ بجمع رسائله وتحقيق بعضها في مرحلة الماستر ليعكف على جمع ديوانه الشعري في مرحلة الدكتوراه. هذا النهج جعل باحثنا يسلط الضوء على شخصية أدبية صوفية كانت ستظل في الظل لولا هذا العمل الرصين.
والدكتور لعجاج بهذا العمل يفتح الباب أمام جمهور الباحثين المتخصصين في التراث للغوص في خبايا مكنونات متعددة المشارب والمجالات فقد ترك الشيخ أزيات رسائل وتقييدات في التصوف والفقه والعقيدة والتفسير والمنازعات والاجتماعيات والتاريخ والفلك واللغة والأنساب بالإضافة إلى الشعر.
التعريف بصاحب الديوان
هو “المفضل بن سيدي الحسن بن سيدي عبد الله بن الحاج أحمد بن الحسن بن يحيى بن الحاج أحمد الخرشفي الحسني أزيات”. ولد صبيحة يوم الإثنين من ربيع الثاني عام تسعة وستين ومائتين وألف للهجرة (1269هـ/1853م) بحي الصبانين بشفشاون.
تعلم الكتابة والقراءة على شيخه أحمد بن محمد الطيب وحفظ تحت رعايته القرآن ثم الأجرومية ومتن ابن عاشر، ثم قرأ على الحاج عبد القادر بن عجيبة سنده الصوفي العلوم الشرعية وعلوم الآلة وعلوم التزكية.
اشتغل بالعدالة والتوثيق بمدينة شفشاون، ثم تقلد القضاء بقبيلة بني سعيد في عهد الحماية على مضض حتى قُبل استعفاؤه
جاء في معلمة المغرب أنه “كان آخر شيوخ التصوف بجبال شفشاون”1. ووصفه العلامة محمد الفرطاخ بـ”ينبوع اللطائف والعرفان، ومعدن الفضل والإحسان، ونبراس الفصاحة والكمال، وشمس العلوم والمواهب التي لا يعتريها كسوف ولا زوال، الكامل، القدوة الواصل، الوالي الرباني” 2. وقال عنه صاحب فهرس الفهارس: “الصوفي الناسك القاضي” .3 وأدرج عدد من فتاويه في كتاب “فتاوى تتحدى الإهمال”.
أخذ عنه الطريق سيدي محمد بن عبد السلام بن عجيبة الحسني4، وصاحبه أحمد بوزيد بالإضافة الى الكثير من أبناء مدينة شفشاون.
ترك تقييدات فقهية وعقدية في مسائل الأنكحة من زواج وطلاق وحضانة، ومسائل الصلاة وعلم الفرائض والمعاملات والعقيدة… بلغت ستين تقييدا ورسالة بالإضافة الى الديوان الشعري الذي عني به الدكتور هشام لعجاح
توفي قبيل فجر يوم الأربعاء واحد وعشـرين من شوال سنة ستين وثلاثمائة وألف هـ
نظرة في المتن الشعري
الناظر إلى ديوان أبي الفيض يجد أن الباحث قسم قصائده وفق مجالات كبرى تتوزع بين قصائد اجتماعية وأخرى صوفية ونظميات عقدية وفقهية ونحوية بالإضافة إلى ملحونات.
فالقصائد الاجتماعية _والتي عرفها الدكتور هشام بأنها: “القصائد التي تفاعل من خلالها الشاعر مع محيطه الاجتماعي الضيق، ويُقصد به دائرة الأسرة والقبيلة على أبعد تقدير، ومحيطه الاجتماعي الأوسع ويمثله الوطن والأمة”_ تشكل أكثر من نصف قصائد ابي الفيض الفصيحة بمجموع ثلاث وثلاثين قصيدة وبثلاثة أخماس أبيات الشعر الفصيح بواقع تسعة وخمسين وألف 1059 بيت.
توزعت هذه القصائد بين وصف لحال المغرب والدعوة للجهاد: متأثرة بالأوضاع التي عاشها المغرب في مستهل القرن العشرين والمتمثلة خصوصا في التدخل الاستعماري والفساد الذي مهد له أو واكبه.
وبين اعتذارات وردود، من أجل الرد على من حاول النيل منه إما بالدس له عند أبناء شيخه أو مع من لهم سلطة، أو على من غمطه في حق أو رماه بباطل…
وبين مجاملات إجتماعية، نزولا عند طلب بعض من يطمعون في كرمه ويقدرون أدبه، فكتب تعزية لبعضهم ووثق للبعض الآخر عقود نكاحهم.
وبين نصائح عامة وخاصة بطابع الوعظ والإرشاد، من توجيه إلى فاضل الأعمال والتحذير من طالح الأفعال. والملاحظ أنها لم تخرج عن النصح العام، وهو ما جاء موجها لكل متلق دون تحديد.
وأما القصائد الصوفية فمجموعها واحد وعشرون قصيدة تمثل ثلث قصائد الديوان بواقع ستة وعشرين ومائة بيت تمثل ثلث أبيات الشعر الفصيح.
بسط الدكتور هشام تقسيمات للأدب الصوفي عموما والشعري منه خاصة عند كل من الدكتور عبد الوهاب الفيلالي من خلال كتابه “الأدب الصوفي في المغرب إبان القرنيين الثاني عشر والثالث عشر للهجرة، ظواهر وقضايا” ومن خلال كتابه ” شعر التصوف في المغرب” وعند الدكتور الحسن شاهدي في كتابه ” التصوف والأدب الصوفي”، وعند الدكتورة نور الهدى الكتاني في كتابها: ” الأدب الصوفي في المغرب والأندلس في عهد الموحدين”، وعند عدنان العوادي أغراض في كتابه “الشعر الصوفي”. ثم اختار موضوعات القصائد لتقسيم الشعر الصوفي لأبي الفيض إلى ثلاث تجارب رئيسة:
- تجربة التشوف والتعلق؛ لدوام تعلق الشاعر بأسباب الوصال والوصول. وتوسله بأسماء الله الحسنى وبالشفيع المشفع صلى الله عليه وسلم. وتميزت نصوص هذا الصنف بغلبة الاعتراف بالذنب وطلب المغفرة، وكذا الشكوى من الزمن وما آلت إليه البلاد والأمة وطلب رفع الغمة.
- تجربة التخليق والتخلق؛ التي تبرز الدور الإصلاحي الذي يباشره الشاعر وهو شيخ التربية من تخلية القلوب من الرذائل وتحليتها بالفضائل متخذا ذاته منطلقا له في خطابه التزكوي.
- تجربة العروج والتحقق. التي يحاول فيها الشاعر تصوير عطايا المولى من المواجيد، وتتميز بغلبة الانزياح الذي هو نتيجة مباشرة لما يكابده الشاعر لوصف أذواق تعلو عن الألفاظ، وحسب الدكتور هشام فإن الشاعر “يضطر إلى استعارة ألفاظ ومنحها رداء صوفيا تقارب ما يجده، وفي أحايين كثيرة لا تكاد تُبِين”. كما عبر الشاعر في هذا الصنف عن رؤيته للسلوك، فقد خَطَّ ما ارتضاه مسارا للوصول والترقي.
وأما النظميات الفقهية والعقدية فمجموعها أربع قصائد وتقارب نصف عشر القصائد باثنين وخمسين 52 بيتا تمثل ربع عشر الأبيات الفصيحة. وقد وردت في قالب تَعَلُّمِي تَعليمي استفهم فيها الشاعر عما استشكله من أمور العقيدة، ويسر تتبع فصول مختصر الشيخ خليل.
وأما الأنظام النحوية فهي قصيدتان تمثلان ربع عشر القصائد بواحد وعشرين بيتا تقارب عشر عشر الأبيات الفصيحة خصصهما لتيسير بعض القواعد النحوية من أقسام دلالات ” لو” أو بيان أنواع الجمع.
أما الملحونات فلم تتجاوز ثلاث قصائد قاربت نصف عشر الديوان. منها ما صار من الصنائع المغناة بشفشاون وهي برولة أنشدت في طبع الحجاز الكبير حسب ما صرح به باحثنا وبتقرير من الأستاذ العياشي الشليح قيدوم المديح النبوي الشريف بالمدينة.
تقديم نص صوفي من الديوان
في محاولة لتذوق شعر أبي الفيض وقع الاختيار على أولى القصائد الصوفية الموجودة في الديوان وهي قصيدة همزية من الكامل في التوسل استهلها الشاعر بقوله:
أَمُحَمَّدٌ بِحِمَاكَ مِنْ أَلَمِ النَّوَى | وَالبَيْنِ، عُذْتُ فَهَلْ يَخِيبُ رَجَائِي |
وهذه قصيدة مؤلفة من واحد وأربعين بيتا واقعة بين همزتين: همزة مفتوحة غير مشبعة لنداء القريب وهمزة مجرورة بالإضافة إل لفظة دون لنفي الانتهاء.
والملاحظ أن الشاعر ابتدأ بنداء رسول الله صلى الله عليه وسلم مفصحا عن رجاءه منه مادحا إياه منتهيا بالصلاة عليه، وهو ما يؤكد مسارعته لاتخاذ الوسيلة وهي الشفيع المشفع لعلاج ما ينوء به صدره من الأحمال التي أكلت حشاءه؛ حيث ناداه صلى الله عليه وسلم بالاسم قائلا: “أَمُحَمَّدٌ” طالبا منه ألا يخيب رجاءه في عياذته بِحِمَاه من ألم النوى والبين دلالة على شعوره بالتقصير في جنب الله معترفا بسواد خطاياه الذي أَظْلَمَتْ منه صُحُفه بسبب سوء فعاله التي وسوس له بها الهَوَى ونَفْـسه اللَّئِيمَةُ الأَمَّارَة بِالسُّوءِ وَالفَحْشَاءِ حتى تعب هو من حمْلِهَا ولم تبق له قدرة على طلب الصفح من المولى المُهَيْمِنِ فما كان منه إلا أنه لجأ إلى بَابِ جَاهِ الرسول كي يجُود بِشفاعته. فهو الرحمة التي سبقت غَضَبَ الجَلِيلِ والتي حَاشَاها ترَدُّ.
ثم تابع الشاعر الإقرار بأوزاره وبقسوة قلبه معترفا بفضل الله وحلمه في ستر عيوبه فلا يرى منه الناس إلا الخير معددا أسباب التجائه إلى التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا دأب الصالحين رضي الله عنه وأرضاهم فمهما بلغوا من المراتب السامية والمقامات العالية تجدهم دائمي الإقرار بالذنب والتقصير وقلبهم ولسانهم يلهج بالذكر والاستغفار خاشعين يرجون رحمة ربهم ويخشون عذابه ويسعون إلى مرضاته ومحبته اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: “لَنْ يُدْخِلَ أحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ. قالوا: ولا أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: لا، ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بفَضْلٍ ورَحْمَةٍ…”5
ثم أردف يصف نفسه بالأسير الموثق بالذنوب والمعاصي والذي يخشى مقلب القلوب ويرجو منه الثبات وحسن الخاتمة في الدنيا راجيا من النبي صلى الله عليه وسلم التكرم عليه بشفاعة يمحو بها الله كل أسوائه ليفوز بأعلى درجات الجنان ويتمتع بالنظر إلى وجهه تعالى وهي نظرة لا تعادلها أية نظرة.
ثم مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مظهر ومظهر رحمات الله تعالى بعباده ومنبع ومذيع نعمه عليهم وهو وسيلتهم إليه في كشف الضر والبلاء في الدنيا، وهو الشفيع المشفع الذي لا يرده الله تعالى يوم الحشر وكل المخلوقات في ضيق وحرج وخوف وانتظار.
وأكد على حبه لله ولرسوله وأشار إلى أن رجاءه وأمنيته موجودان في سورة الضحى. وسورة الضحى كلها خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم فيها تسرية وتسلية وترويح وتطمين كلها أنسام من الرحمة وأنداء من الود، وألطاف من القربى، وهدهدة للروح المتعبة، والخاطر المقلق، والقلب الموجوع. وهي لمسة من حنان. ونسمة من رحمة. وطائف من ود. ويد حانية تمسح على الآلام والمواجع، وتنسم بالروح والرضى والأمل. وتسكب البرد والطمأنينة واليقين.
وأنهى قصيدته بالصلاة على الرسول الكريم وآله وذوي إرثه الطاهر الموصل إلى النجاة دون نهاية مقيدا إياها باخضرار الرُّبَى ونسخ الشَّقَا وافْترار الحَيَا وصَب الصَّبَا وأَرِجَ الثَّنَا وافْتتَان الحِجَا بِجَمَالِه صلى الله عليه وسلم المَنْفُوثِ فِي الأَشْيَاءِ وَعلو مدْحِه في الآفاق
وبالنظر إلى القصيدة نجد أبياتها تفيد التوسل حتى وإن خالطتها أبيات في الشكوى وإبداء الندم وأخرى في المدح والتصلية، فخطاب التوسل بطبيعته ينبني على الإقرار بالحال ومدح الوسيلة وترجي الغاية.
- فوصف الحال وما فيه باستعمال معجم يعبر عن: المعاناة والألم من خلال ذكره:
للألم – البلاء – النوى – البعاد – البين – الغرق – الشَقَاء – البَأْسَاء – الـضَّرَّاء – الداء – الشفُّ (الإضعاف) – الإرْدَاء (الإهلاك) – الإعضال(الاشتداد) – الكَلّ (الضعف) – الإيثَاق – الأسر- الصَّهْر – اللَّأْوَاءِ(شدة ضيق العيش)…
وبمعجم يعبر عن: الإصرار على الإثم ويشمل الْأَبْقَ (الخروج عن الطاعة) – الإثم – الوِزْر – الزَلَّة – النُّكْس (الرجوع إلى الذنب) – وَالجَأْجَاء(الهزيمة) – الإفلاس –الفَحْشَاء – السُّوء – الشؤم –الهَوَى…
وآخر عن: الشدة والقسوة وفيه: الجمود – القسوة – التصلد – الجَهد – اللؤم –
وبمعجم الخوف والخشية – الخجل –الشَّقَاء – الخَيْبَة
- ثم مدح الوسيلة وما هي عليه من: الرَحْمَة – الجود – العَطَاءِ – الحلم – النَّعْمَاءِ – الخَيْر – الإِحْسَان – الجُود – الجمَال – الغنى – الكَرم – المحَبَّة – الحُسْن.
- وبين الأول والثاني جعل يوظف معجما للرجاء والتوسل ويشمل الرجاء – التَوَسُّل – السؤَال – التمني – العَطْف – النِدَاء -الشَّفَاعَة – الغَوْثَ – الدرك… متأملا تحقيق ما عبر عنه بمعجم السعادَة والفوز ومنه: السعادَة – الفوز – الثَّبَات –الستر – الفَيْض – المَرْهَمُ – الدِّفَاعِ – الأمل
والملاحظ أن المعجم الموظف لدى الشيخ معجم قديم يرتفع عن السهولة نسبيا وتغلب عليه الصبغة الوجدانية باعتبار الطابع الصوفي الذي يؤطر القصيدة، كما أنه رغم تعدد الحقول المعجمية والدلالية إلا أنها تؤثث لمشهد واحد وهو مشهد التوسل.
وبنظرة إلى مكونات إيقاع القصيدة نجدها من البحر الكامل كما سبق، وقد جاء في صورته التامة مع خضوعه لعلة القطع وهي علّة من العلل التي تصيبُ ضَرْب البحر الكامل، أيْ التفعيلة الأخيرة من البيت والتي يلتزم بها الشاعر في كلِّ القصيدة، وهي حذف آخر الوتد المجموع وتسكين ما قبله، يعني “مُتَفَاعلن” تصبح “مُتَفَاعلْ”، ويمكن أيضًا أن تكون مضمرة ويدخلها القطع مثل “مُتْفَاعِلْ”. كما خضعت بعض الأبيات أحيانا لزحاف الإضمار: وهو تسكين الحرف الثاني المتحرّك، حيث إنَّ تفعيلة “مُتَفَاعِلُن” تصبح “مُتْفاعلن”، وهو زحاف حَسَن. فيكون وزن البيت كما يلي:
مُتَفَاعِلُن مُتَفاعلن مُتَفَاعِلُن مُتَفَاعِلُن مُتَفاعلن مُتَفَاعِلْ
والملاحظ أن الشاعر التزم بهذا النظام في القصيدة كلها إلا في البيتين التاسع والتاسع والعشرين حيث ينضاف سكون إلى التفعيلة الأولى متفاعلن فتصير متفاعيلن رسما لكن تحذف إنشادا فيزول هذا التكسير، ويمكن تفسير ذلك بأن الشاعر ينشد قصائده قبل اثباتها في صحفه مما يطلق العنان للاختلاس والإضافة اللذان يعالجان أي تكسير متوهم. فلقد اختلس المد الواقع بعد الهاء في قوله: “أأراها تن…بو”، في التفعيلة الأولى؛ كما اختلس المد الواقع بعد الجيم بداية التفعيلة الثانية في قوله: “…المرجى لكشف كل”. والبيتان هما كما يلي:
9 | أَأُرَاهَا تَنْبُو عَنْ عُبَيْدٍ شَفَّهُ | جَهْدُ البَلَاءِ وَكَرَّةُ اللَّأْوَاءِ | |
29 | أَنْتَ المُرَجَّى لِكَشْفِ كُلِّ مُلِمَّةٍ | يَا كَاشِفَ البَأْسَاءِ وَالـضَّرَّاءِ |
وقد تميزت هذه القصيدة بقافية مطلقة متنوعة فيها الردف ألف والوصل ياء وبينهما الهمزة روي؛ والهَمْزُ يفيد معنى الضَّغْط، ويتعلَّق الضَّغْطُ في النُّطْق بالهمزة في حَبْسِ الهواء الخارج من الحنجرة، وفي انقباض الحَلْق، وانطباق الوترَينِ الصَّوتيَّينِ انطباقًا تامًّا، وهذا قد يعطي انطباعا عما يجش به صدر الشاعر من ضيق وانحسار يوضحه تنوع القافية التي توزعت بين حروف غلبت عليها صفات الجهر والشدة والاستفال والانفتاح والاصمات وقل فيها الهمس والرخاوة والاستعلاء والإذلاق مؤكدة الحالة النفسية للشاعر الذي يكابد ألم الهجران والفراق كما جاء في تصريحه أول القصيدة مترجيا رحمة الله. ومستشفعا برسوله.
وللقصيدة إيقاع داخلي يهمس بجمالها ويتمظهر في التكرار والتجانس بين الألفاظ والتوازن الصوتي والتقسيمات العذبة التي تجعل منها ذات تأثير بديع في النفس.
وللتكرار في هذه القصيدة تنوع جميل توزع بين تكرار التفعيلة والصوت والكلمة والمقطع الشعري، وغيرها… ومن أمثلة ذلك:
- تكرار التفعيلة باعتباره أصلا في البحر الكامل لكونه بحرا صافيا، ومن الناحية الموسيقية فإشباع مد الردف في المقطوعة يبعث توازنا بينها وبين السالمة السابقة فتصير القصيدة منتظمة الإيقاع، وهو ما يعكس شكل سير أبي الفيض في الطريق الثابت الخطوات المستنير بالشريعة صوب الحقيقة.
- تكرار حرف الراء كثيرا في القصيدة حتى لا تكاد تجد بيتا يخلو منه، وورد متحركا وساكنا ومشبعا. والتكرار بمفهوم آخر صفة من صفات حرف الراء بمعية الانحراف حيث يتقعر طرف اللسان، مما يجعل حافتي طرفه – الأقرب لظهره – يلتصقان بغار الحنك اﻷعلى، ويبقى وسط طرف اللسان من غير التصاق، مما يحدث فرجة صغيرة يمر منها صوت الراء الذي ينحرف عن اليمين وعن الشمال إلى ذلك المجرى الضيق فيمر منه إلى الخارج، مكتسبا قوة نتيجة انحصاره في هذه الفرجة الضيقة وهذا ما يسمى بالانحراف الذي يجعل طرف اللسان يرتعد ارتعادا خفيفا يسمى صفة التكرار.
- تكرار صوت الياء الممدودة: وورد في شكلين؛ منفصلة تفيد النداء والتوسل ومتصلة تشكل أجزاء من مباني ألفاظ.
- تكرار صوت الهاء بعد ألف ممدودة، دلالة على الألم والأنين وورد داخل كلمات مثل جاه وأُراه…
- تكرار كلمة عسى ست مرات نصفها في صدر بيت واحد وثلثها في صدر بيت آخر وهذا دليل على شدة إلحاح الشاعر وحرصه على إدراك غاياته.
- تكرار كلمة جد مرة في صدر بيت ومرتين في صدر بيت آخر تأكيدا لطلبه للشفاعة من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
- تكرار كلمة أنت في أبيات متتالية وهي أبيات خصصها لمدح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ووصفه بما يجعله أهلا للشفاعة.
- تكرار مقطع شعري كامل متكون من تفعيلتين وهو: “صلى عليك الله ما…” ست مرات متتالية بداية كل بيت متبوعا بفعل وفاعله أو بفعل مبني للنائب مع نائبه وبهذا تكون التصلية ذات بنية متكررة تأكيدا على وجوبها وإدامتها بتقييدها بما لا ينتهي.
- تكرار بنية بيت بكاملها في البيتين السادس والعشرين والسابع والعشرين أو ما يسمى بالتوازي التركيبي بحيث نجد تقابلا إيقاعيا جميلا بين كلمات البيتين وتجانسا بين الألفاظ وتوازنا صوتيا عذبا:
يا /يا؛ مظهر/منبع؛ الرحمات/النعماء؛ من/ من؛ كنز/بحر؛ العمى/الحبا، ومشيعها/ومذيعها؛ من/من؛ أرحم/أكرم؛ الرحماء/الكرماء.
هذه نماذج للتمثيل فقط وهي بحق تظهر موسيقى داخلية جميلة في القصيدة تبعث على تقدير الجمال في نفس المتلقي.
وبالنظر إلى قصائد الديوان نلحظ تكرارا جميلا آخر وهو تكرار مستهل القصيدة في ختامها وظفها الشاعر في ثمان قصائد وهو ما أحالني على قصيدة كنا نرددها ونحن صغار في مسجد العنصر ينشدها الفقيه سيدي عبد النبي الصديقي بصوته الجميل الحاني اللطيف رحمه الله تعالى ورحم أجدادنا وآباءنا وأموات المسلمين أجمعين وألحقهم بنبينا عليه الصلاة والسلام ولعله كان تيجاني الطريقة. وكان يبتدئ إنشاده بقوله:
أَلَا يَا لَطِيفُ يَا لَطِيفُ لَكَ اللُّطْفُ | فَأَنْتَ اللَّطِيفُ وَمِنْكَ يَشْمَلُنَا اللُّطْفُ |
ويختمها بقوله:
عَلَيْهِ صَلَاةُ اللهِ مَا قَالَ مُنْشِدٌ | ألاَ يَا لَطيفُ يَا لَطِيفُ لَكَ اللُّطفُ |
هذه الظاهر الشعرية رغم وجودها وبروزها لم أقف على اصطلاح يسميها، ويمكن وصفها “بالقصيدة الموصولة” على اعتبار أن إعادة صدر البيت الأول في نهاية القصيدة هو بمثابة وصل لطرفيها حتى تصير حلقة تتماهى فيها الأبعاد.
والقصيدة زاخرة بالأساليب والوسائل المتنوعة المشتملة على الأساليب الخبرية، والإنشائية بما فيها من الرجاء والقسم، والاستفهام، وغيرها. والخطاب فيها في الغالب متعلق بالمخاطب المفرد، وترتبط هذه الضمائر بفعل الأمر أحيانا أو بأسماء مطلقة في الزمان، أما الجمل الموظفة فذات طبيعة متنوعة بين الاسمية والفعلية، وبين التركيب والبساطة، وهي مرتبطة فيما بينها بالعطف أو الشرط أو الوصل أو غيرها… ومرد خطابه ذلك قد يكون عقديا باعتبار الرسول صلى الله عليه وسلم حيا يرد السلام على المسَلِّم عليه.
أما الصور البيانية والرمز والمحسنات البديعية فالمقام لا يسمح بتتبعها، والأكيد أن هذه العناصر هي ما يبرز جمالية الصورة الشعرية للقصيدة خصوصا وأنها لشاعر صوفي ذاق حلاوة العرفان وبرع في فنون علوم الآلة حتى صيرها طيعة لينة ركوبا ذلولا يصل بها إلى أبعد الآفاق، فكيف لشعره أن يخلو من الجمال والحلاوة.
إن الحديث باقتضاب عن شعرية القصيدة يفتح لنا الباب للكلام عن استثمار هذه المكنونات الشعرية الموجودة في الديوان.
وتتبع إنتاج الشيخ أبي الفيض من الشعر الصوفي يبرز أنه ترك سبع قصائد من البحر الطويل وسبع قصائد من البحر الكامل وقصيدة من الرجز وقصيدتين من الرمل وقصيدة من الوافر وقصيدة من البسيط. هذه المكنونات تفتح الباب على مصراعيه أمام أهل المديح والسماع عموما والمهتمين منهم بتراث شفشاون العريق لتجديد النص الصوفي المتغنى به، فنصوص شاعرنا غنية بما يؤهلها لذلك. ومما يمكن التمثيل به لهذا المشروع الفني استثمار القصيدة السابقة في عدة ألوان غنائية نورد منها طبوعا أندلسية عريقة استحضارا لحمولة مدينة شفشاون التاريخية مسقط رأس شاعرنا. ومن ذلك:
استثمار بعض الأبيات من القصيدة وأداؤها في نوبة رمل الماية، حيث يمكن تأديتها كتصديرة لهذا الميزان فهي توافق صنعة قد طال شوقي للنبي. و “التصديرة” هي أول صنعة في الميزان الذي يطلق في آن واحد على الإيقاع وعلى مجموعة الصنائع الملحنة عليه. وتكون حركات الميزان وفق حركة بطيئة تتزايد سرعتها تدريجا وصولا إلى القفلة آخر صنعة فيه.
كما يمكن استثمار بعضها في تصديرة درج الحجاز المشرقي باعتبارها توازي صنعة قمر تكامل وهذه الصنعة كسابقتها تأتي مباشرة بعد توشية الميزان وهي المقدمة الموسيقية للميزان المزمع أداؤه.
كما يمكن استثمار خمسة أبيات أخرى وأداؤها في نوبة الماية ودائما في تصديرة ميزان الدرج على منوال صنعة: “وعشية لا زلت أرقب وقتها”
وبنفس الشكل يمكن استثمار أبيات خمسة أخرى وأداؤها في ميزان الدرج من طبع الرصد ودائما على غرار تصديرة الميزان وهي صنعة
“بح بالغرام وبثه ترتاح واشرح هواك فما عليك جناح”.
هذه الأمثلة اقتصرت على الصنعة الأولى أي التصديرة من بعض ميازين الدرج، وقد سقت هذه الأمثلة لأن الصنعات المغنات فيها تخلو من بعض الإضافات المتعارف عليها في التراث الموسيقي الأندلسي، فعند إنشاد الأبيات وفق ما سبق لن نجد ما يظهر في كثير من الصنائع من كلمات غريبة عنها تسمى “الطراطين” مثل “يلالان”، “هان ن”، و”طيري طان”، و”طارالطي”، و”طاني طاناي”.. والغاية من هذه الكلمات إيجاد التوازن بين الجمل القصيرة والجمل اللحنية الأطول منها، وتسمى هذه الصنائع “الصنائع الشغل”، حيث أننا نجد الكتب عنيت بأشعار موسيقى الآلة وأزجالها تثبت فوق كل صنعة نوعها.
وعموما فتنوع البحور وغزارة إنتاج الشيخ أبي الفيض فرصة ثمينة لإثراء العرض الفني المرتبط بفن المديح والسماع من حيث المادة الإنشادية وجودة بنائها وجزالة معانيها، وفي جلسة دردشة مع عميد المادحين بمدينة شفشاون الأستاذ الفنان الحاج عبد القادر أفزاز ناقشنا الحاجة إلى استثمار الجوانب الصوفية في مثل ديوان أبي الفيض الشفشاوني الأصل فنيا خصوصا وأنه يحمل من القيم التربوية والعرفانية ومن الجماليات الإبداعية ما يجعله في مصاف الريادة. ولولا الجهد المبارك للدكتور هشام لعجاج الذي بذله في تبديد الغمر عن هذا المكنون وإدخاله إلى دائرة الضوء لما سمع أحد بهذا الكنز النفيس، وغيرها كثير في هذه الأرض السعيدة وما حولها. فجزاه الله خير الجزاء على هذا العمل المبارك وجعله في ميزان حسناته وجعله من العلم الذي ينتفع به الذي لا ينضب أجره أبدا.
د. عبد الرزاق الزياني