نظرة في كتاب “ذكريات صداقة” أبو الخير الناصري
الجمعة 20 ماي 2016 – 18:33:32
أهداني أستاذي العزيز الدكتور عبد اللطيف شهبون – حفظه الله تعالى – نسخة من كتابه الجديد “ذكريات صداقة”[1] الذي خصصه لإبراز جوانب من معيشه المشترك مع أستاذنا الجليل العلامة سيدي عبد الله المرابط الترغي رحمه الله تعالى. ومع أن المادة الرئيسة لهذا الكتاب قد سبق لأستاذنا شهبون أن نشرها ضمن مواد عموده الأسبوعي الثابت بجريدة “الشمال” الأسبوعية، فإن تجميع ذاك المنشور مع غيره بين دفتي كتاب جعلني أقرأ ما كتبه المؤلف قراءةً مغايرةً خلصتُ منها إلى أمور غير التي توصلت إليها عند قراءة مادة الكتاب على صفحات الجريدة. لقد نشر د.شهبون مقالاته عن صديقه الراحل عَقِبَ موته رحمه الله.
وبما أن حَدَثَ الرحيل كان ما يزال طريا ذا وقع كبير على النفس، فلقد كانت قراءتي للمنشور بالجريدة تسير في اتجاه واحد هو تعرُّف بعضٍ من ملامح أستاذنا الراحل من خلال شهادة صديقه العزيز الذي جمعته به محطاتٌ علمية وإنسانية متعددة. أما بعد أن حدث بعض التراخي الزمني بيننا وبين واقعة الموت، وقَدَّرَ الله أن نقرأ ما كتبه أستاذنا شهبون عن أستاذنا الترغي – رحمه الله – من خلال وسيط جديد (هو الكتاب) فقد بدا لي أن هذا العمل لا يقدم ملامح من شخصية العلامة عبد الله المرابط الترغي فحسب، بل ويجلي ملامح من شخصية أستاذنا شهبون أيضا. لذلك أفردت هذه الكلمة الموجزة لإبراز جوانب من شخصيتي الرجلين كما يُبْديها هذا الكتاب.
– أولا: صورة الدكتور عبد الله المرابط الترغي أجمل المؤلف هذه الصورة في ملمحين بارزين حينما وَصَفَ صديقَ عمره بأنه “نموذج الأستاذية العالِمَة والإنسانية الشامخة” (ص08). وأورد، في كتابه، وقائعَ وأحداثاً وكلماتٍ تجلي هذين الملمحين: أ- فأما ملمح الأستاذية العالمة في شخصية أستاذنا الراحل فلم يكتف المؤلف بالإلماع إلى بعض ما يبرز التميز العلمي للدكتور الترغي، خصوصا في موضوع الأدب العربي بالمغرب الأقصى؛ وذلك من خلال إيراده بعضَ الحوارات التي جرت بينهما، وَوَصْفِهِ صديقَه في لحظات الحوار بكونه “متوقد الحس”، “حاد الذهن إزاء ما يسمع”، وبأن المتن موضوع الحوار “منطبع في ذاكرته وصدره” (ص42- 43)، بل وعمد إلى إيراد شهادة للدكتور عبد السلام الهراس قالها في حق الأستاذ الترغي بمناسبة مناقشة بحثه المسمى “فهارس علماء المغرب منذ النشأة إلى نهاية القرن الثاني عشر للهجرة”؛ وهي الكلمة التي جاءت شاهدةً بالتمكن العلمي للدكتور الترغي، إذ قال فيه الدكتور الهراس رحمهما الله: “أتى الرجلُ بالجديد في مادته ومنهاجه واستنتاجاته..وعقليتُه لا تختلف عن الجيل الذي عرفه..لقد استطاع كما أسلفت بسط المغرب العالم؛ جغرافية المغرب العلمية في استقراره واستمراره وتطوراته بتفصيل مثير للإعجاب والاعتزاز بصاحب العمل وبالمغرب العالم..” (ص29). كما لجأ المؤلف لتجلية ملمح الأستاذية العالمة في شخصية أستاذنا الرحل – رحمه الله – إلى إيراد مقالة للدكتور محمد أنقار يشهد فيها للراحل بأن ما قام به “في سبيل اكتشاف المخطوطات والتعريف بها يوازي عمل مؤسسة ضخمة تحتاج في واقع الأمر إلى عمال وميزانية..” (ص50).
على أن في إيراد شهادتي الدكتورين عبد السلام الهراس ومحمد أنقار دلالاتٍ خاصةً في هذا المقام، من أبرزها تعزيزُهما شهادةَ المؤلف التي قد يَعُدُّها بَعْضُهُم مجروحة بالنظر إلى الصداقة القوية التي جمعت بين المؤلف وصديقه الراحل. ومن الحق أن نقول هنا إن اختيار المؤلف لشهادتي الرجلين كان ذكيا وصائبا؛ وذلك لما عُرف عنهما من إخلاص للعلم وابتعاد عن المجاملة.. ب- وأما ملمح الإنسانية الشامخة للراحل فمِنْ أحسن ما يجليه حديث المؤلف عن تحبيس أستاذنا الراحل مكتبتَه على طُلَّاب العلم.
فقد استوقف هذا “العملُ الجليلُ والفعلُ النبيلُ” مؤلفَ الكتاب، وجعله يلهج بالثناء على صاحبه والدعاء له. يقول بعد ذكره محتويات مكتبة صديقه وما بذله من جهد في تجميع محتوياتها: “..والحديث التفصيلي عن هذه المكتبة العامرة، وإدمان صاحبها على استغلالها في إعداد مئات الأبحاث والدراسات والتأليف الفردي والجماعي، واستفراغ جهده في ضبط مكنونها، وتقديم خدمات وتوجيهات لقصادها..فيحتاج إلى تأليف بل تآليف..حسبي في هذا المقام أن أسجل للمعلم السي عبد الله موقفا أخلاقيا أريحيا عزيز النظير..هكذا همة الرجال تكون..” (ص36).
إنّ إِيرَادَ شَطرٍ شعري من البيت الشهير لعلال الفاسي: كلُّ صَعْبٍ على الشَّباب يَهونُهكذا هِمَّةُ الرّجال تَكونُ وجَعْلَهُ عُنواناً للمقالة دالٌّ على التقدير الكبير من المؤلف لإنسانية الدكتور الترغي المتمثلة في إقدامه على خطوة لا يقدر كثير من رجال العلم على الإقدام عليها، ألا وهي تحبيس مكتباتهم على طلاب العلم، خصوصا إذا كانت في مثل مكتبة د.الترغي المشتملة – وفقاً لإحصاء غير نهائي- على ما يلي: “- 10.000 كتاب مطبوع – 300 مخطوط أصلي – 3000 مخطوط مصور – مئات المجلات والجرائد والصحف والدوريات – ما يزيد عن 1600 بحث للإجازة والماستر – 2000 قرص – 200 أطروحة جامعية – 200قرص للصور المؤرخة لمناسبات ووقائع – 250 شريط صوتي للمناقشات العلمية” (ص35- 36). إن تحبيس مثل هذا الكنز العلمي لا تُقْدِمُ عليه إلا نفسٌ كبيرةٌ كريمةٌ بلغت مقاما عاليا في درجات الإنسانية. إن هذا التحبيس دليلٌ على عُلُوّ هِمَّة فاعله، و”هكذا هِمّةُ الرجال تكون” عاليةً شامخةً تستطيع أن تتغلب على النفس وما قد تحدِّثُ به صاحبَها من الشُّحّ الذي يَحْتَلُّ نفوساً كثيرة ويَشلّ حركتها إلى فضيلة الكرم !! لقد كانت نفسُ أستاذنا الترغي حُرَّةً كريمةً في عصر ضَنَّتْ فيه نفوسٌ كثيرةٌ بإفادةٍ أو معلومةٍ، بَلْهَ مخطوطٍ، أو مخطوطاتٍ، أو مكتبة زاخرةٍ بالمخطوطات والمطبوعات…فكان ذاك الكَرَمُ الترغيُّ خيرَ دليل على إنسانية شامخة سامية.
– ثانيا: صورة الدكتور عبد اللطيف شهبونوتتشكل صورة الدكتور عبد اللطيف شهبون في هذا الكتاب من جملةِ ملامحَ أذكرها على النحو الآتي:أ- شهبون الوفي لقيمة الصداقة. وهذا أهم ملمح، في تقديري، لأنه هو الدافع لإصدار هذا الكتاب، وهو دافع المؤلف – قبل ذلك – لكتابةِ مقالاتٍ عن أستاذنا الترغي – رحمه الله – عقب وفاته، ومقالاتٍ أخرى في أثناء حياته شَغَلَ بعضٌ منها حيزا في صفحات هذه الكتاب كمقاله “هكذا همة الرجال تكون” المتقدم ذِكْرُه.ب- شهبون الْــمُضَيِّفُ الْـــمُرَحِّبُ بغيره من أهل الكلمة.
ومما ينطق بهذا الأمر مقالةٌ للدكتور محمد أنقار عنوانُها “الترغي وتودوروف”، وهي مقالة شغلت ست صفحات من هذا الكتاب (ص45- 50)، وقصيدةٌ للشاعر حسن الطريبق في رثاء الأستاذ الترغي رحمه الله (ص51-52)..على أن هذه “الضِّيَافَةَ الشَّهْبُونِيَّة” لأهل الكلمة ملمحٌ أصيلٌ في شخصية أستاذنا عبد اللطيف شهبون، وإن من يتتبعون عموده الأسبوعي بجريدة “الشمال” لَيَذْكُرونَ تخصيصه هذا العمود لنشر مقالاتٍ وملاحظاتٍ لبعض أهل الأدب والفكر كالدكتور محمد الحافظ الروسي، والشاعر عبد الكريم الطبال وغيرهما.ج- شهبون المدوِّنُ لبعض تفاصيل حياته العاملُ – في هذا الأمر – بقول القائل: “العِلْمُ صَيْدٌ والكتابةُ قَيْدُهُ”، ولعل من خير ما يُبين هذا الأمر ما ذكره عن حضوره مناقشة صديقه الراحل لرسالته لنيل دبلوم الدراسات العليا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس سنة 1983، إذ قال عن ذاك الحدث: “دَوَّنْتُ تلك المناقشة العلمية من أولها إلى آخرها في كُرَّاسٍ احتفظت به إلى يومه؛ لأنها تذكرني بجو علمي مفعم بالمحبة والبرور..”(ص27)، ومن ذاك الكراس نقل المؤلف كلمة الدكتور عبد السلام الهراس باعتباره مشرفا على بحث أستاذنا الترغي “فهارس علماء المغرب”.
وأقدِّرُ أن عنصر التدوين هذا هو ما أسعف المؤلف على استحضار “ذكريات صداقته” مع الراحل استحضارا جليا لا تغيب عنه بعض التفاصيل الدقيقة، وذلك كالذي ذكره عن حوار جرى بينهما في شأن تحقيق “إثمد القلم في أحداق الحكم” للشيخ سيدي محمد بن محمد الحراق؛ حيث نجد المؤلف يورد أسئلة الدكتور الترغي وأجوبته هو عنها مرتبة متسلسلة، وكالذي ذكره المؤلف من أحداث جمعت بينه وبين صديق عمره في أزمنة وأمكنة مختلفة (انظر مثلا الصفحات: 12- 15).تلكم نظرة مختصرة في صورتي الأستاذين عبد اللطيف شهبون – حفظه الله – وعبد الله المرابط الترغي – رحمه الله – لا تدَّعي الإحاطة بكل ما يشتمل عليه هذا الكتاب من مناقب وقيم، ولكنها تحيةٌ لأستاذي العزيز د.عبد اللطيف شهبون الذي أكرمني بإهدائي نسخة من كتابه، وهي أيضا تحيةٌ لروح أستاذنا العزيز د.عبد الله المرابط الترغي رحمه الله تعالى وأكرم مثواه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
منشورات ملتقى الدراسات المغربية والأندلسية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، ط01، مارس 2016م.[1]