كان، رحمه الله، أستاذنا في مادتي التربية الإسلامية والبلاغة في إحدى سنوات المرحلة الثانوية.
عرفناه مخلصا في أداء رسالته التربوية، مواظبا على عمله، رغم ما كان يعانيه من إكراهات صحية.
من حسناته الراسخة في الذاكرة، حثه إيانا على عدم الاكتفاء بالمقررات الدراسية، وتشجيعه لنا على التثقيف الذاتي عبر تنويع روافد مطالعاتنا.
وأذكر أنه كان سباقا يومها إلى إلقاء محاضرة حول موضوع دقيق هو”الاقتصاد الإسلامي” في مركز الحزب الذي كان منتميا إليه بتطوان، فخلفت ردود فعل شتى؛ منها استفساره من لدن زميل في قسمنا عن قضية أثارها أستاذنا في محاضرته الفريدة، فجاء جوابه كاشفا عن واسع اطلاعه، ودالا على عميق ثقافته الإسلامية؛ إذ بين لجماعة القسم أن من أراد استيعاب مضامين محاضرته وإدراك مقاصدها، يتعين عليه مراجعة سلسلة من الكتب التي سلط فيها مؤلفوها الأضواء الكاشفة على موضوع “الاقتصاد الإسلامي”، ثم أخذ طبشورة وشرع في كتابة عناوينها على السبورة.
فكان ذلك، بالنسبة لي، حافزا ودافعا ومرغبا في البحث عنها لاقتناء بعضها، بغية تكوين فكرة موسعة عن هذا الموضوع الحيوي الذي يعود الفضل في إثارته لأستاذنا، رحمه الله.
وأذكر من تلك الكتب المفيدة التي نصحنا أستاذنا بمطالعتها، وتيسر لي ـ لاحقا ـ الحصول عليها وقضاء أجمل اللحظات في أحضان صفحاتها:
- الإسلام وأوضاعنا الاقتصادية للشيخ محمد الغزالي.
- اقتصادنا لمحمد باقر الصدر.
- النقد الذاتي لعلال الفاسي.
- آيات الربا لسيد قطب.
- المسلم في عالم الاقتصاد لمالك بن نبي.
وهذا كله يؤكد أنه كان، بحق، مثالا وقدوة في “التثقيف الذاتي” الذي طالما رغبنا فيه بحس الأستاذ الموجه، ونصحنا به بحب الأب العطوف.
وظل مخلصا لرسالة الثقافة التنويرية إلى آخر أيامه، عبر سلسلة الدراسات التي كتبها عن الإشعاع الفكري والحضاري لمدينة تطوان في مجلة (دعوة الحق) المغربية، ومجلة (المناهل)، ومقالاته المتعلقة بقضايا وطنية واجتماعية في جريدة (العلم)، وجريدة (تطوان)، وجريدة (الوحدة الكبرى)؛ فضلا عن نظمه قصائد في مناسبات وأحداث وطنية، ومشاركاته المفيدة في ملتقيات وندوات بكلمات ومحاضرات.
ومن جميل الصدف أني وجدت في مكتبتي كتيبا مفيدا هو عبارة عن باقة مقالات سبق له نشرها في صحيفتين تطوانيتين، ووسمه بـ “أضواء على الحركة الوطنية بشمال المغرب”.
وتقديرا لمكانته لدى عارفي قدره، وتكريما لتاريخه النضالي الزاخر بالمنجزات، اصطفاه وآثره الباحث المسرحي ـ إبداعا، ودراسة، وتمثيلا ـ الأستاذ رضوان احدادو ليكون له شرف فضل كتابة تقديم كتابه “مسرح عبد الخالق الطريس”.
ولجودة هذا التقديم الذي اختار له عنوانا دالا هو “الوجه الآخر للأستاذ الطريس” أقتطف منه قوله:
((المعروف عن الأستاذ عبد الخالق الطريس أنه رجل سياسي وزعيم وطني بارز، وهذه هي السمة التي اتسم بها طول حياته والقليل جدا من المثقفين من تفطن للصفة الأخرى التي تميز بها في المحافل الأدبية والفنية، وهي شغفه بفنون الآداب والموسيقى، فكان بين الأدباء أديبا لامعا، وبين الكتاب كاتبا مبدعا، وفي المجالس الموسيقية وخاصة منها الأندلسية الأصيلة، رهيف الإحساس، رفيع الذوق، يطرب للنغمة الساحرة واللحن الشجي، والصوت الجميل، والكلمة المؤثرة، ويعبر عن طربه وتذوقه بأسلوب فني أيضا وطريقة طريسية خاصة. وهذا الشغف العارم بالأدب والفن، هو الذي دفعه إلى إلقاء محاضرات أدبية رفيعة من منبر جمعية الطالب المغربية، ودفعه للإنتاج الأدبي والمسرحي في محاولات جادة ناجحة، ودفعه لاختيار تدريس مادة الأدب العربي إلى جانب مادة التربية الوطنية في مؤسسة “المعهد الحر” يوم كان المعهد أول ثانوية وطنية حرة في شمال المغرب على الإطلاق وفيه تخرجت أفواج مثقفة نافعة…
وحيث كان المسرح مظهرا من مظاهر النهضة الثقافية في المجتمع العربي الحديث فإن الطريس أراد أن يجعل منه وسيلة للتوعية ومظهرا من مظاهر النهضة الفكرية في المجتمع المغربي الجديد. فكانت له محاولات ناجحة في هذا المجال فتحت الضوء الأخضر أمام طلابه وأدباء وقته، فكانت النهضة المسرحية في شمال المغرب وخاصة في تطوان، ملازمة للنهضة الوطنية التي كان الطريس يرعى الأولى بحماس وعاطفة مستنيرة، ويقود الثانية بمهارة فريدة وجرأة نادرة.
وكانت مسرحيته الفريدة “انتصار الحق بالباطل” من ألمع محاولاته الرائدة في مجال الإنتاج المسرحي المعاصر، وهي المسرحية التي خصص لها الأخ الصديق الأستاذ رضوان احدادو هذه الدراسة اللطيفة المفيدة. فكان بعمله هذا من المثقفين القلائل الذين وصلوا بذكائهم إلى اكتشاف ظاهرة إنسانية جميلة في حياة الأستاذ الطريس.
وعمل الأستاذ رضوان عمل ثقافي يستحق الإعجاب والتقدير، حيث إنه رسم صورة جديدة للأستاذ الطريس ووضعها بين أيدي الأدباء والمسرحيين منهم خاصة. صورة مشرقة تضاهي صورته النضالية الباهرة، وهي صورة نضالية أخرى حقا، ولكن في مجال المسرح الذي كان من أبرز الهوايات الأدبية والفنية وأحبها إلى الأستاذ الطريس.. صورة بديعة يمكن أن نعبر عنها بالوجه الآخر للأستاذ الطريس.))
رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى جزاء ما عمل من صالحات، وما قدم من منجزات، ووفق أحفاده البررة لجمع تراثه الفكري والأدبي المنشور في الصحف والمجلات، وإصداره في كتاب يبقى شاهدا على أستاذ حمل مشعل النضال: تدريسا؛ وإشعاعا؛ وكتابة.
د. محمد محمد المعلمي