كتابات في تاريخ منطقة الشمال:
“العائش في النغم الموسيقار مصطفى عائشة الرحماني”
لا يمكن التوثيق لتحولات المشهد الثقافي والفني والإبداعي الوطني الراهن إلا من خلال تجميع حصيلة السير الذهنية للنخب المبدعة والفاعلة. ولا يمكن القبض بخصوصيات ملكة الإبداع داخل مجالاتها المخصوصة إلا عبر استنطاق عناصر التميز داخل الحميميات الفردية. ولا يمكن –كذلك- القبض بتلابيب “التاريخ الثقافي” و”تاريخ الذهنيات” و”التاريخ الرمزي” إلا عبر الوفاء لخصلة الإنصات، وحسن الإنصات، للجزئيات وللتفاصيل الدقيقة التي تصنع التجارب، وترصع الملكات، وتصقل المواهب، قبل أن تتحول إلى تراث رمزي قادر على توفير عناصر الارتقاء الحضاري والسمو في الذوق وفي تمثل قيم الجمال والفن والإبداع.
ولعل هذا ما أدركته الأستاذة سعاد أنقار، وهي تصدر كتابها التوثيقي المتميز لسيرة المبدع مصطفى عائشة، تحت عنوان “العائش في النغم- الموسيقار مصطفى عائشة الرحماني”، وذلك سنة 2010، في ما مجموعه 129 من الصفحات ذات الحجم الكبير. فالكتاب، رسالة وفاء وتقدير كبيرين تجاه أحد أعلام الموسيقى المغربية والعربية الراهنة، ممن أنجبتهم مدينة تطوان كعنوان عن معالم النبوغ الفني والحضاري لهذه المدينة المعطاءة. وبخصوص الإطار العام الموجه لمضامين الكتاب، فقد اختزلته الكلمة التقديمية بشكل دقيق، عندما قالت: “حياة وأعمال موسيقيينا يجب أن تدون وتحفظ صفحاتها للتاريخ ولأجيالنا المقبلة. ولأن مصطفى عائشة تجربة رائعة بين تجارب الموسيقى المغربية الأصيلة، فقد تطرق هذا الكتاب إلى بعض مما عاشه هذا الموسيقار الكبير في حياته، وإلى كثير مما ألفه من أعمال. ولأن مؤلفاته جديرة بالقراءة والاستماع والتحليل، تضمن الكتاب أيضا وقفات تحليلية عند نماذج من تلك الإبداعات كانت في حاجة ماسة إلى تفكير وتأمل عميقين. هذا الكتاب عتبة أولى نتمنى من خلالها أن تفتح الأبواب على أنغام مؤلفين مغاربة كلاسيكيين حتى توثق أعمالهم ومراحل حياتهم لتكون شاهدا في المستقبل على نمط رفيع من أنماط الموسيقى الأصيلة المتداولة في بلادنا”.
هي كتابة عاشقة لسمو روح الإبداع التي تصنع التميز الحقيقي، والتراكم المنتج، والإبداع الخالد. وقد أحسنت الأستاذة أنقار بإصدارها لهذا العمل، عربون وفاء وإخلاص لذكرى مبدع كبير أصبح جزءا أساسيا داخل ذاكرة الإبداع الموسيقي لمدينة تطوان. هي كتابة تساهم في ترسيخ قيم الوفاء تجاه أعلامنا الخالدين، بنفس القدر الذي تعيد فيه الاحتفاء برصيد المنجز الفني لهؤلاء الأعلام، خاصة بالنسبة لمن طالته آلة الجحود القاتلة، والنسيان الموجه، والتبخيس العدمي. لقد عاش مصطفى عائشة طوال حياته في الظل، وأبدع أعماله في الظل، وغادرنا إلى دار البقاء في الظل خلال إحدى صبيحات سنة 2008. لم يترك الرجل جاها ولا مالا ولا ذهبا ولا فضة، ولكنه –في المقابل- ترك زادا فنيا غزيرا، نجحت الأستاذة سعاد أنقار في تجميع الكثير من مظانه ومن ذخائره، اعتمادا على جهد فردي كبير أثمر الكتاب موضوع هذا التقديم. ولاستثمار نتائج هذا الجهد التوثيقي المتميز، سعت المؤلفة إلى توزيع مواد الكتاب بين أربعة أبواب متكاملة، اهتمت في أولاها بتقديم جرد بنفس كرونولوجي لأبرز محطات حياة المبدع مصطفى عائشة، في تقلباتها المختلفة، بعناصر إشعاعها وبإخفاقاتها وبطموحاتها. وفي الباب الثاني، اختارت المؤلفة الاشتغال على السمات الموسيقية للمبدع الراحل مصطفى عائشة من خلال قضايا ومواضيع محددة، مثل حضور الموسيقى الجبلية في مقطوعة “أغنية- رقصة”، وعنصر التوتر في شريط “الأندلس- ذكريات”، وتنويعات الأحلام والصور في “ثلاث مشكالات”، وحضور الموسيقى الأندلسية والموسيقى الغربية في “غراميات في حدائق الأندلس”. وفي الباب الثالث من الكتاب، سعت المؤلفة إلى تقديم جرد بيبليوغرافي لحصيلة منجز الفنان مصطفى عائشة سواء منها المنشورة، أم تلك التي لازالت حبيسة الأرشيف الشخصي للفنان مصطفى عائشة. ويتعلق الأمر بالأعمال الموسيقية، وبالكتابات القصصية والمسرحية، وبالترجمات، وبالحوارات، وبالتصانيف المتنوعة المخطوطة. ولتعزيز هذه المضامين، خصصت المؤلفة الباب الرابع لنشر سلسلة من المواد التوثيقية والصور الفوتوغرافية الراصدة لتقلبات حياة الفنان مصطفى عائشة.
وبذلك، استطاعت الأستاذة سعاد أنقار نفض الغبار عن السيرة الذهنية للفقيد مصطفى عائشة، مما يشكل زادا تأسيسيا لتنظيم الاشتغال على التاريخ الثقافي المحلي والوطني لزماننا الراهن. ولعل في ذلك خير اعتراف بقيمة الرجل وبمكانته غير المتنازع حولها في صنع توهج ذاكرة تطوان الفنية، تطوان الحضارة والتاريخ، تطوان الإبداع والجمال. وفي هذا المنحى، صيحة في وجه مختلف أشكال التردي والسقوط التي أضحت تطمس وجه الإبداع المحلي والوطني الموسيقي الحالي. ولإنهاء هذا التقديم المقتضب، نعيد الاستدلال ببعض مما قاله الفقيد مصطفى عائشة في إحدى لحظات انكساره من بشاعة حالة التردي التي أضحت تهيمن على كل شيء مرتبط بأذواق الأذن. يقول الفنان الراحل مصطفى عائشة: “إن العالم مقيد موسيقيا بطوفان من الضجيج المزعج الذي يصم الآذان، ومن الإيقاعات الطرقية، وبموسيقى الآلات المعدنية الصاخبة. إنه تلوث صوتي يمزق حاسة السمع، ويحرق الأعصاب، ويسبب الغثيان وألم الرأس” (ص. 36). رحم الله الفنان مصطفى عائشة.
أسامة الزكاري