كتابة عمود أو تحرير مادة… في صحيفة أو مجلة أسبوعية، وإن كانت ،كما يبدو، توفر لكاتبها مدة زمنية كافية تفصل بين كتابة موضوع و آخر و إعداد مادة وأخرى، من أجل ترتيب أفكاره والكتابة على نار هادئة، كما تمنحه وقتا كافيا لمراجعة ما يكتبه، فإنها أيضا تضعه أمام أسئلة حارقة، تدور حول جاذبية الموضوع وراهنيته و رهاناته، إذ لا يعقل أن نكتب من أجل الكتابة في مجال الصحافة لأن الصحافة ،كما هو متعارف عليه، هي عين و صوت المجتمع و مرآته، فعبرها يتم نقل الأحداث الظاهرة و الخفية، و التجاذبات المجتمعية و المطالب الاجتماعية، والانزلاقات الفردية والمؤسساتية، والإنجازات و المشاريع، و النواقص و الخيبات، والأسئلة و الإجابات، و الحلول و المعالجات…
و أعظم تحد يعيشه، في تقديري، الكاتب في صحيفة أسبوعية هو كيف يختار المواضيع التي تحتفظ بطرواتها لدى القارئ وقيمتها لدى الرأي العام، في وقت نشهد فيه تسارعا لاهثا للأحداث، و سرعة وكثافة في نقلها و تشريحها و تحليلها، حتى لا يكاد يبقى للمتأخرين زاوية للتناول أو نقطة للإضافة، مما قد يوقعهم في مثلبة التكرار غير المفيد، ويحاصرهم بشبح اللاجدوى..
المعاني مطروحة في الطريق كما يقول الجاحظ، وهو ما يترك دائما الباب مفتوحا أمام مزيد من النظر و الحفر، و يعطي للحبر والقلم فرصة للإبداع و الإدهاش، و التوقع والاقتراح مهما كانت الأزمنة وكيفما كانت التحديات..
في عز تألق الصحف والمجلات الورقية كنا ننتظر على أحر من الجمر ما سيقوله دهاقنة الصحافة بأسلوبهم الشيق و نظرهم الثاقب و سخريتهم المرة، وكنا نتبادل ما يقولونه و كأنه سراجا ينير ظلمة الواقع و يكشف أسرار الأحداث مثلما يحدس مآلاتها السعيدة أو التراجيدية أو يزيدها تشويقا بالاستفهامات و الفراغات…
في هذه الليلة التي تصادف ليلة المولد النبوي الشريف، تتوزعني الحيرة بين الكتابة عن عطر هذه الذكرى المنيرة التي لنا معها ذكريات راسخة في العقل و تزداد رسوخا في القلب؛ ذكرى مولد الرسول الكريم، صانع مجد هذه الأمة، و بين الكتابة عن ما أثارته الاستقالة المبكرة والمفاجئة لوزيرة الصحة في الحكومة الجديدة -بتعلة التفرغ لتدبير شؤون العاصمة الاقتصادية- من نقاش عمومي حول أوجه الخطل في الجمع بين المناصب و النزوع إلى الهيمنة واحتكار السلطة، و بين الكتابة عن ما يثوي وراء انبجاس “ظاهرة” العائلة في السياسة أو بشكل دقيق في “السياسة الانتخابية”؛ والتي ظلت مرتبطة في مخيلتنا، إلى حد ما، بالولايات المتحدة الأمريكية، التي نعرف منها عائلات كينيدي، كلينتون وبوش..وهي ظاهرة تتطور في بلدنا، و لها علاقة بقوة تأثير بعض الأعيان على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والديني وهيمنتهم على بعض الأحزاب والمجالات الترابية، وبين الكتابة عن أمر التهاب الأسعار و القدرة الشرائية الذي له علاقة بارتفاع ثمن المواد الأولية الفلاحية و الطاقية المحركة للإنتاج في السوق العالمي المحرر، وبين الكتابة عن رواية “يوميات نائب في الأرياف” لتوفيق الحكيم التي تعلمنا أنه بعد مرور قرن تقريبا على كتابتها لم تتغير البنية العميقة لبلاد العرب. ورغم ما لهذه المواضيع من راهنية، فإنني آثرت أن أكتب باقتضاب ،كما سلف أعلاه، عن هواجسي وما أفكر فيه أسبوعيا و أنا أهيئ نفسي للكتابة في صحيفة “الشمال” الغراء، حيث أحس بالرهبة المتجددة كلما فتحت حاسوبي عادة في ليلة الإثنين و أحيانا قبله أو بعده..، وفي كثير من الأحيان تأتيني فكرة الكتابة عن موضوع لم يكن في البال في اللحظة الأخيرة، و قد أخط كلمة فيأخذ الموضوع وجهة غير التي حددتها، و ما يكون علي إلا الاستسلام و اقتفاء الأثر بهدوء ودون معاكسة نحو الوجهة التي يقودني إليها…
إنها الكتابة الأسبوعية أو الكتابة في صحيفة أسبوعية، قد أشترك في كثير مما أحس به بصددها مع آخرين وقد لا أشترك، لأنه من البديهي أن تتعدد الطقوس و الأحوال والمقامات كما تتعدد الأساليب بتعدد الكتاب. وفي آخر المطاف تقبل الكتابة على القراء ألوانا؛ وأنا كقارئ يدهشني فرسانها، و سأظل باستمرار متعلما في محرابها بتواضع جم وتصميم أكيد ومتعة تمتح نسغها من جمال الحياة في ثرائه وتأرجحه بين المتخيل و الواقعي بين النفسي والاجتماعي، بين الماضي و الحاضر والمتوقع..
عبدالحي مفتاح