كتابات في تاريخ منطقة الشمال : ” الروض المعطار في خبر الأقطار “
وإذا كان هذا الكتاب قد قدمه صاحبه على أساس أنه ” معجم جُغــرافي “، فإنه قد احتوى – إلى جانب الوصف الجغرافي الميداني الدقيق – على معطيات تاريخية أساسية تهم كل موقع أو مدينة ذكرت في الكتاب وكذا على سير أبرز الرموز البشرية التي أنجبها هذا الموقع أو تلك المدينة. وبما أن أصل المؤلف يعود إلى منطقة الغرب الإسلامي حيث قضى حياته موزها بين مدينتي سبتة وغرناطة، فقد ركز كثيرا على حواضر هذه المنطقة وعلى مراكزها الأساسية، وخاصة منها تلك المنتمية إلى المجال الجغرافي الواسع لمنطقة شمال المغرب الحالي. ولذلك، فالكتاب يظل عملا مفيدا في قيمته، غنيا في مضامينه، دقيقا في وصفه، سلسا في متنه، ومنفتحا على سواه من المصنفات الكلاسيكية العربية الإسلامية التي اهتمت بتوطين حدود مناطق العالم الوسيط وأقاليمه الكبرى. وبالنسبة لمنطقة شمال المغرب في أبعادها العربية الإسلامية والمتوسطية والإفريقية، فالكتاب يظل أحد أهم مظان الفترة التاريخية المدروسة بالنظر لعدة اعتبارات أهمها الاطلاع الواسع للمؤلف على ما كتبه سواه من المؤرخين بهذا الخصوص، واستقراره شبه الدائم بالمنطقة، مما جعله يتعرف على خبايا المنطقة وعلى جزئياتها المجهرية وعلى خصوصياتها المميزة التي لم تنتبه لها – عموما – المصنفات الجغرافية الإسلامية المشرقية.
صدر كتاب ” الرّوض المِعطار في خبَر الأقطـــار ” بمدينة بيروت في طبعتين اثنتين، أولاهما تعود لسنة 1975 والثانية لسنة 1984 بتحقيق علمي متميز للدكتور إحسان عباس. وتتوزع مضامين هذا العمل بين ما مجموعه 745 صفحة من الحجم الكبير، إلى جانب التقديم المنهجي العام الذي وضعه المحقق في تصديره للكتاب. وبالنسبة للهدف من وضع الكتاب وكذا بالنسبة لمنهجية سرد المعلومات والوقائع، فقد وضحهما الحميري في تقديمه لعمله، عندما قال : ” … وبعد، فإني قصدت في هذا المجموع ذكر المواضع المشهورة عند الناس من العربية والعجمية والأصقاع التي تعلقت بها قصة، وكان في ذكرها فائدة أو كلام فيه حكمة، أولها خبر ظريف أو معنى يستملح أو يستغرب ويحسن إيراده. أما ما كان غريبا عند الناس ولا يتعلق بذكر فائدة ولا له خبر يحسن إيــــراده، فلا ألم بذكره ولا أتعرض له غالبا استغناءا عنه واستثقالا لذكره، ولو ذهبت إلى إيراد المواضع والبقاع على استقصاء لطال الكتاب وقل إمتاعه، فاقتصرت لذلك على ذكر المشهور من البقاع وما في ذكره فائدة، ونكبت عما سوى ( ذلك ) ورتبته على حروف المعجم لما في ذلك من الإحماص المرغوب فيه ولما فيه من سرعة هجوم الطالب على اسم الموضع الخاص من غير تكلف عناء وتجشم وتعب، فقد صار هذا الكتاب محتويا على فنين مختلفين : أحدهما ذكر الأقطار والجهات وما اشتملت عليه من النعوت، وثانيهما الأخبار والوقائع والمعاني المختلفة بها الصادرة عن مجتلبها “.
إنه – إذن – ترتيب أبجدي يقدم معطيات ووقائع لا تخضع لأي تبويب موضوعاتي لمراكز ولمواقع جغرافية انشغل المؤلف في التوثيق لها بالجمع بين البعد الجغرافي والسند البشري والعمق التاريخي والتوظيف الغرائبي، مركزا في ذلك على تقديم مفهوم مجدد – في زمانه – للسرد لم يسبقه إليه سواه، مفهوم يتأسس على قاعدة ” المتعة والعبرة ” التي تحكمت في الآفاق العامة لهذا العمل، بتحوله إلى العنصر الناظم الجامع بين كل المعطيات المقدمة في الكتاب. وبالنسبة للمصادر الأساسية المعتمدة، فالملاحظ أن الحميري قد اكتفى – في الجانب الجغرافي – بالاعتماد على المصادر المغربية وخاصة منها كتاب ” نزهة المشتاق ” للإدريسي. أما في الجانب التاريخي، فقد وسع المؤلف دائرة اطلاعه بالنهل من أمهات المصادر العربية الإسلامية الكلاسيكية وخاصة المشرقية منها، من دون إغفال المصادر الأدبية المتعلقة بالتراجم مثل ” كتاب الأغاني ” وبعض الدواوين الشعرية، وكذا بعض أبرز مؤلفات الحديث مثل صحيح مسلم والبخاري وسنن النسائي. وبذلك قدم الحميري نصا فريدا في غزارة مضامينه وفي طريقة عرض معطياته المتعلقة بمرحلة القرن السابع، وخاصة عندما كان الأمر يتعلق بضرورات تصحيح بعض نصوص مصادر هذه المرحلة، وكذا بأهمية استكمال نقائص معطيات المصادر العربية الأخرى المرتبطة أساسا بجغرافية القارة الأوربية والأندلس ومنطقة شمال المغرب. وإذا كان الحميري قد نقل – في الكثير من الأحيان – عن سابقيه عدة أوصاف جغرافية ووقائع تاريخية، فإن ذلك قد أغنى – في المقابل – من قيمة العمل بجعله ينفتح على الرصيد الأرسطوغرافي الموجود حتى عهد المؤلف، مما أكسبه شروط التدقيق والضبط والإضافة والتصحيح بالنسبة لجل المتون المعتمدة.
وبما أن المقام لا يسمح باستعراض كل الاستشهادات الضرورية في هذا المجال، فإننا سنكتفي بالوقوف عند بعض النماذج الخاصة ببعض معطيات مدينة أصيلا التي ذكرها المؤلف أو التي أشار إليها عرضا، وهي نماذج يمكن من خلالها استخلاص أهم مميزات نسق الكتابة لدى الحميري وكذا أبرز سمات آلياته التنقيبية التي وظفها في كتابه ” الروض المعطار “.
في هذا الإطار، يقول المؤلف في الصفحة رقم 42 ما يلي : ” بلد بقرب طنجة ويقال فيه أزيلة بالزاي، وهي مدينة قديمة كبيرة، عامرة أهلها، كثيرة الخير والخصب، وكان لها مرسى مقصود، وكان سبب خرابها أن المجوس لما خرجوا من البحر الكبير أول ما يلقاهم مدينة أصيلة فينزلون مرساها ويخربون ما قدروا عليه منها فيجتمع البرابر ويحاربونهم فكانوا معهم على ذلك حتى خلت مع ما كان بين أهل تلك البلاد من الفتن … وكان سبب بنائها أن المجوس نزلوا مرساها مرتين، أما الأولى فإنهم أتوا وزعموا أن لهم بها أموالا وكنوزا فاجتمع البربر لقتالهم على ما قدمنا، وذلك في أيام الإمام عبد الرحمن بن الحكم. وأما خروجهم الثاني فإن الريح قذفتهم في ذلك المرسى منصرفهم من الأندلس وعطبت لهم على باب المرسى من ناحية المغرب مراكب كثيرة، ويعرف ذلك الموضع بباب المجوس إلى اليوم، فاتخذ الناس موضع أصيلة رباطا فأتوه من جميع الأمصار، وكانت تقوم فيه سوق جامعة ثلاث مرات في السنة، وهو وقت اجتماعهم وذلك في شهر رمضان وفي عشر ذي الحجة وفي عاشوراء، وكان الموضع ملكا للواتة فابتنى فيه قوم من كتامة واتخذوه سوقا جامعا وتسامع الناس أمرها من الأندلس وأهل الأمصار فقصدوها في الأوقات المذكورة بضروب السلع، ثم بنوا شيئا بعد شيء فعمرت …
ومن أصيلة أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي، أصله من كورة شذونة من بلاد الأندلس وكان جده من مسالمة أهل الذمة ورحل أبوه إبراهيم إلى أصيلة من بلاد العدوة ثم رحل في طلب العلم وجال في الآفاق وأوغل في بلاد المشرق ولقي الرجال، وتفنن في الرأي والحديث … “
هذه – باختصار – نماذج عن طرق الوصف التي اعتمدها الحميري في كتاب ” الروض المعطار “، وهي كافية للكشف عن أهمية هذا التأليف وعن دوره في التعريف بالعديد من مراكز منطقة الشمال التي ظلت مجهولة لدى الرحالة والجغرافيين العرب لمرحلة العصور الوسطى، وذلك على الرغم من كل ما يمكن تسجيله من ثغرات أو انزلاقات أو أخطاء معرفية / وصفية ارتبطت ببعض المناطق أو الجهات المذكورة في الكتاب. ولعل أهم ما أضاف قيمة استثنائية على هذا العمل، دقة التحقيق الذي أنجزه الدكتور إحسان عباس، والذي سهل عملية تداول المتن والكشف عن خباياه وعن طلاسمه المرتبطة بانغلاق مغارات الكتابة الأسطوغرافية الكلاسيكية. وتزداد هذه الخاصية وضوحا، بالاطلاع على الهوامش التفسيرية التي ألحقها المحقق بالمتن الأصلي، وكذا على التقديم المنهجي الخاص بضبط عملية التحقيق في أبعادها العلمية الدقيقة، وكذا على الفهارس التفصيلية المرافقة للعمل المحقق والخاصة بالأماكن وبالأعلام وبالقبائل وبالأمم وبالكتب المذكورة في المتن وبالقوافي المحال عليها. وبذلك، أصبح بالإمكان الاطلاع على طبعة علمية لكتاب ” الروض المعطار ” بشكل يساهم في توسيع دائرة المعارف الجغرافية والتاريخية والإثنية والبشرية لعوالم مرحلة العصور الوسطى وبشكل خاص تلك المنتمية منها لفضاءات البحر الأبيض المتوسط. ولا شك أن الكتاب يقدم – من داخل هذه الفضاءات – موادا مرجعية أساسية للتوثيق لتحولات ماضي منطقة شمال المغرب سواء على مستوى حدود التوطين الجغرافي بمعناه الضيق، أو على مستوى الإضافات الحضارية الكبرى التي راكمتها المنطقة غلى امتداد القرون الماضية.