9 أبريل 1947 زيارة طنجة قرارُ الحسم في المواجهة الكبرى مع الاستعمار خطابُ طنجة التاريخي: صيحة في وجه العالم من أجل الاستقلال والوحدة
الجمعة 08 أبريـل 2016 – 12:56:15
يُخَلّد الشعب المغربي، يوم الثلاثاء 9 أبريل، الذكـرى التاسعة والستين للزيارة التاريخية التي قام بها جلالة سلطان المغرب سيدي محمـد بن يوسـف لمدينـة طنجـة التي كانت تعيش تحت نظام إدارة دولية، فرض عليها وعلى المغرب قبل «مؤامرة» الجزيرة الخضراء سنة 1906، حيث إن الاتفاق الودّي الفرنسـي البريطانـي (1904) أوصى ب «تدويل» هذه المدينة المغربية، نظرا لخصوصيتها الجغرافية والتاريخية، ولكونها عاصمة دبلوماسية للمغرب منذ أواخر القرن الثامن عشر.
النظام الدولي: نقمة في طي “نعمة”
ولقد فُرض النظام الدولي على طنجة بمقتضى الاتفاق الثلاثي الفرنسي البريطاني الإسباني سنة 1923 ودخل هذا النظام، في صيغته النهائيــة، حيز التطبيـــق في يوليوز 1925 بعد التوقيع عليه من كل من فرنسا وإسبانيا والبرتغال وبريطانيا وبلجيكا وهولندا والولايــات المتحــدة الأمريكيـــة والاتحاد السوفياتي، ولاحقا إيطاليا. ونص هذا الاتفاق على أن طنجة منطقة دولية تحت سيادة سلطان المغرب . وبالضبط، فإن سلطان المغرب هو من أصرّ، ـــ بعد اثنتين وعشرين سنة على فرض النظام الدولي على طنجة ، وخمس وثلاثين سنة (فقط) على معاهدة فاس بشأن نظام الحماية الفرنسية الاسبانية بالمغرب، ـــ على «خلط أوراق» المستعمر، شمالا وجنوبا، وإرباك مخططاته لتفتيت وحدة المغرب أرضا وشعبا، بمشروع الظهير البربري و قانون المساواة في ممارسة حقوق المواطنة بين «الأنديجين» والفرنسيين، وبمشاريع أخرى منها الاتحاد الفرنسي، وهي مخططات الهدف منها تكريس الهيمنة الاستعمارية، بعيدا عن روح معاهدة الحماية والأهداف الظاهرة، التي وُضعت لها.
زيارة طنجة “الدولية”
ثم إن زيارة جلالة السلطان لمنطقة طنجة لم تكن كباقي الزيارات التي يقوم بها جلالته لحواضر وبوادي مملكته بهدف تفقد شــؤون الرعيـة وربط الاتصال بالوطنيين وبعموم الشعب، بل إن زيارة طنجة كانت بهدف الصدح في وجه العالم، بمطالب المغرب بخصوص إلغاء معاهدة الحماية واسترجاع السيادة الوطنية على كافة تراب المملكة. ذلك أن طنجة ـــ بموقعها الجغرافي المتميَز، وبنظامها الدولي ووضعها كعاصمة دبلوماسية منذ أواخر القرن الثامن عشر، وتجهيزات الاتصالات الدولية السلكية واللاسلكية التي كان يتوفر عليها السلك الدبلوماسي والتي كان مراسلو الصحافة العالمية يستعملونها في إيصال برقياتهم إلى المنابر الإعلامية العديدة التي كانوا يمثلونها في منطقة طنجة الدولية، فضلا عن محطات الاتصال المتطورة (آنذاك) بمستعمرة جبل طارق التي كان يسهل على الصحافيين بطنجة، وطنيين وأجانب استعمالها، ـــ هذه المدينة كانت تشكل بالنسبة للسلطان «الوطني»، منبرا بامتياز للصَدع بمطالب شعبه في الحرية والاستقلال. زيارة طنجة كان لها ما قبلها وما بعدها من أحداث كبرى سبقتها ونتجت عنها، لاشك أنها عجَلت ب «المواجهة الكبرى» الحتمية، التي أدَت إلى نهاية الاستعمار وبزوغ فجر الحرية والاستقلال.
المقاومة السياسية بعد العسكرية :
ذلك أنه بمجرَد أن «خمدت» المقاومة العسكرية للحماية، خاصة حرب الريف المجيدة، حتى تشكلت الحركة الوطنية السياسية، سنة 1934، من أجل المطالبة بإصلاحات سياسية في المرحلة الأولى قبل أن تتصلّب مواقف كتلة العمل الوطني، ردَا على القمع الممارس على رجالاتها من طرف السلطات الاستعمارية الفرنسية، وتتقدم بوثيقتي المطالبة بالاستقلال، سنة 1944، الأولى من طرف حزب الاستقلال الحديث النشأة، ووطنيين مستقلين ، والثانية تقدمت بها حركة القوميين المغاربة بزعامة المرحوم محمد ابن الحسن الوزاني. وكانت الحركة الوطنية بالشمال، الخاضع للحماية الاسبانية والمشكلة أساسا من حزبي «الاصلاح الوطني» و «الوحدة المغربية» بزعامة المرحومين «الأستاذ» عبدالخالق الطريس والشيخ محمد المكي الناصري، قد سبقت الجنوب إلى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال والوحدة إلى سلطات الحماية الاسبانية وممثلي الدول الأجنبية بطنجة الدولية، كما قامت بدعاية دولية واسعة لهذه الوثيقة مستفيدة من الحشد الهائل للمراسلين الأجانب المعتمدين لدى سلطات الحماية الاسبانية بتطوان ولدى الإدارة الدولية بطنجة.
وبالرغم من بعض الانفراج الذي طبع بداية عهد المقيم العام إيريك لابون (1946 ـ 47) الذي تمثل في التخفيف من ضغط الأزمة السياسية بالبلاد، وذلك بإطلاق سراح بعض الوطنيين المعتقلين والمنفيين والتخفيف من «المضايقات» على حرية الصحافة، حيث صدرت أربع صحف وطنية لمواجهة المد الثقافي والاعلامي الاستعماري، فإن الوطنيين أصروا على متابعة النضال من أجل الاستقلال الكامل، متخطين بذلك وبصفة نهائية مرحلة المطالبة بالإصلاحات السياسية.
قرار الحسم: زيارة طنجة
وجاءت زيارة طنجة التاريخية لتشكل الحدَ الفاصل بين المرحلتين، ولتعلن «المواجهة» الصريحة بين معسكر الوطنيين بقيادة السلطان محمد ابن يوسف ومعسكر الاستعمار بتأطير من الإقامة العامة وشرذمة من الخونة من أتباع الباشا الكلاوي و «الفقيه» الكتــاني وغيرهما ممن لا زال التاريخ يحفظ أسماءهم في ذاكرة الخزي والعار.
ولو أن الكَــثيرين منهم ومن ذرَياتهم «نجحوا» في أن «يتخضرموا» بين المرحلتين ويتأقلموا مع العهدين، بل ولربما حصلوا على عهد الاستقلال من الحظوة والسلطة والنفوذ ما لم يكونوا يحلمون به على عهد «الفرنسيس» وتلك «طامة» أخرى يأتيها زمانها ورجالها في وقتها المناسب.
فحين وصلت الأزمة بين القصر الملكي والإقامة العامة إلى «الباب المسدود»، خاصة بعد مؤتمر أنفا حيث أعرب السلطان للرئيس الأمريكي روزفيلت وللوزير الأول البريطاني تشرشيل، عن رغبة الشعب المغربي في التحرر والإنعتاق من ربقة الاستعمار، الأمر الذي لم يكن ليرضي الإقامة العامة، وكذلك الشأن باعتراض السلطان على القرار الفرنسي بشأن اليهود المغاربة، وبعد رفض الحكومة الفرنسية لمبدإ المفاوضة مع السلطان خلال زيارته لفرنسا سنة 1945، اتخذ سيدي محمد ابن يوسف القرار القنبلة لزيارة طنجة «الدولية» واختار أن يصلها بالقطار ليؤكد وحدة المنطقتين السلطانية والخليفية وكذلك المنطقة الدولية، تحت لواء العرش العلوي المجيد.
ولعرقلة هذه الزيارة وإجبار السلطان على إلغائها، عمدت سلطات الاستعمار، يوما واحدا قبل إقلاع القطار الملكي في اتجاه طنجة، على القيام بمذبحة رهيبة بالدار البيضاء، بواسطة فيلق السينغال العامل بقواتها بشمال إفريقيا، نتج عنها ضحايا بالعشرات، موتى وجرحى، ولكن السلطان أصر على الزيارة الميمونة ، بعد أن تفقّد عائلات الشهداء والضحايا، واطمأن على أحوالهم.
محطة القطار : لم تشفع لها رمزيتها التاريخية والوطنية
وصل القطار الملكي يوم التاسع من أبريل إلى محطة القطار التاريخية التي كانت أول محطة لأول خط سكة حديد، يربط طنجة بفاس. وكان بالضبط يسمي «خط طنجة ـ فاس». وكان الأجدر برجال السلطة في مدينة طنجة ومستشاريها بالمجالس المنتخبة، أن يحوَلوا بناية المحطة ، بعد بناء المحطة الجديدة، البعيدة عن وسط المدينة، إلى متحف للذاكرة الوطنية أو متحف لتاريخ القطار بالمغرب ، بدل أن يقع «تهميش» هذه المحطة، بالطريقة «المزرية» البئيسة والغير مشرفة، التي توجد عليها الآن…بيد أن ذلك يقتضي وجود حسً وطني، و «ثقافة» وطنية،….. ولكن «فاقد الشيء لا يعطيه»!…….
وصول جلالة السلطان إلى طنجة كان يوما مشهودا، بعد أن توقف بسوق الأربعاء والقصر الكبير وأصيلة حيث استقبل من الخليفة السلطاني مولاي الحسين بن المهدي ورجالات الحركة الوطنية بالمنطقة الخليفية، تأكيدا لوحدة الشعب قاطبة وراء السلطان ودعما لمواقف جلالته الرافضة لأي تنازل بشأن الوحدة الترابية و القضية الوطنية.
وكان خطاب طنجة، غداة وصول السلطان سيدي محمد ابن يوسف لطنجة التي رفعت لافتات كبيرة بباب المندوبية وبمراكز المدينة كٌتب عليها بالخط العريض «تحيى طنجة العلوية» نكاية بالتسمية الاستعمارية «طنجة الدولية»!…..
صباح العاشر من أبريـــل ألقى السلطان خطابه التاريخي بحدائق المندوبية بحضور الحكومة السلطانية، وسلطات الحماية الفرنسية والاسبانية، والإدارة الدولية، و شخصيات المدينة، من بينهم العلامة سيدي عبد الله كنون الحسني رحمه الله، وعلمائها ووطنييها وشبابها ومن سمحت لهم ظروفهم من وطنيي تطوان والمنطقة الخليفية وتمكنوا من عبور» الحدود» في اتجاه طنجة، وحضور ملفت للنظر، للسلك الدبلوماسي بزيه المختلف من بلد لآخر والذي يحمل بعض سمات القرنين الثامن والتاسع عشر ويذكر بإوروبا ما بين الحربين.
خطاب طنجة التــّـاريخي :شَكَّـلَ هـذا الخطــاب حدثــًا تاريخيــًا وسياسيــًا هاما وفريدا في تاريخ المغرب المعاصر، إذ أكّــد وحدة المغرب الترابية ورفضه لتجزئ الأرض الوطنية إلى مناطق بتسميات مختلفة، في الشمال والوسط والجنوب، كما أكّـــد خطاب طنجة، تمسُك الشعب المغربي بوحدة تُـرابهِ حــرصه على تحقيق «أمانيه» الوطنية وانتمـــاءه الإسلامي وتضامنه مع الجامعــة العربيــة الحديثة النشــأة، ردَا على مشروع الاتّحاد الفرنسي الاستعماري الذي رفضه المغرب، ولم يتضمن الخطاب السلطاني الجملة المقترحة من الإقامـة العاـمة الفرنسية المتضمنة لإشـادة السلطـــان بالتعــاون المغربي الفرنسي، تأكيــدا من جلالتـــه لاستقلاله عن سُلطات الحماية.
وإلى جانب خطاب طنجة السياسي، كان لأهل طنجة موعد مع خطبة الجمعة بالمسجد الأعظم حيث أم جلالته المصلين بنفسه وألقى خُطبتي الجمعة في جو ديني رَهيب اهتّـزَت له قُـلـــوب المؤمنين في كل مكان، حيث بيّن جلالته أن السر في نجاح السلف الصالح هو في تمسكه بتعاليم الدّيـن الاسلامــــي الحنيف وتعلقه بمبادئ الحرية وبالحقوق البشرية. وكما كان منتظــرا، فـإن «زيـارة طنجة» شكّلت حدثـًا ذا دلالات كبرى في تاريخ الحركة الوطنية المغربية بل إنها كانت الشــــرارة الأولى في معركة التحرر التي انتهت بإعلان الاستقلال ودخول المغرب عهد «الجهاد الأكبر».
بقيادة جلالة ملك المغرب محمد الخامس تغمّده الله بواسع رحمته. ومن نتائج هذه الزيارة الميمونة، إقالة المقيم العام إريك لابون واستبداله بجنرال أكثر صلابة، الجنرال جوان الذي جاء بتعليمات واضحة من السلطات الفرنسية بضرورة «فرض» إرادة الإقامة العامة الفرنسية على السلطان وإخضاعه لقراراتها، وتهديده بالخلع في حالة رفض جلالته التعاون مع سلطات الحماية.
ولم تزد تهديدات المقيم العام وسلطات الحماية السلطان سيدي محمد بن يوسف إلا إصرارا على معاكسة أهواء الاستعمار إلى أن وصل به الأمر إلى مقاطعة الإقامة العامة وإعلان «الإضراب» عن التوقيع وكتب ذات مرة على مشروع ظهير قدم لجلالته للتوقيع من الإقامة العامة عبارته الساخرة، «صار بالبال» !!!…..
ولم يتمكن خلال سنتي 1951 و 1952 عبر رسالته الشهيرة للرئيس الفرنسي «فانيان أوريول» ومذكراته العديدة للحكومة الفرنسية، من إقناع السلطات الفرنسية بفتح مفاوضات بشأن إلغاء «اتفاقية فاس» التي وقع عليها باسم فرنسا وإلى جانب السلطان المولى حفيظ ، الموسيو رينيو ممثل فرنسا آنذاك بطنجة وهو واحد من الجواسيس الأوروبيين الذين مهّدوا لتغلغل الاستعمار الفرنسي بالمغرب، والذي «تخلًد ذكراه المشؤومة» وإلى اليوم، ثانوية فرنسية بوسط المدينة: «الليسي رينيو»!…
أحداث كثيرة ومؤثرة توالــت على المغرب منذ زيارة طنجة وبسبب تلك الزيارة التي لم يغفر الاستعمار وأذنابه لصاحبها وقوفه على الخط مع الوطنيين ضدَا على الوجود الاستعماري بالمغرب، إلى المؤامرة الكبرى التي أدَت ست سنوات بعد خطاب طنجة، إلى نفي السلطان الشرعي في 20 غشت 1953 واندلاع الثورة الشعبية التي أرغمت السلطات الفرنسية على الإقرار بأن نفي السلطان كان خطأ كبيرا وتقرر عودته إلى شعبه وعرشه ، وفتح مفاوضات إكس ليبان المثيرة للجدل وإلى الآن، والتي انتهت بإعلان الاستقلال في إطار الترابط .
جريدة الشمال