من المفيد الإشارة، بادئ ذي بدء، إلى أن القضية الفلسطينية موضوعةٌ حاضرةٌ في كل أعمال الكاتب الروائي الأردني ـ الفلسطيني صبحي فحماوي، إلا أنها تتفاوت في درجة هذا الحضور، ففي بعضها تحضُر بشكل جزئي ضمن قضايا أخرى تكون هي المهيمنة ، وذلك من خلال شخصيات ذات أصول فلسطينية عانتْ من التشريد والتهجير في أرض الشتات ، وظلت دائماً مهمومة بالقضية ، حالمة بالعودة إلى أحضان الوطن ، أو من خلال الإشارة إلى أحداث فارقة تتصل بالمقاومة والكفاح داخل أرض فلسطين وخارجها كما هو الحال مثلا في روايتي ” الإسكندرية 2050 “( 2009 ) ، و ” باب الهوى ” ( 2014 ). أما بعضُها الآخر ، فتحتل فلسطين تاريخاً وقضية ومأساة شعب ، الموضوعَ الرئيس أو المهيمن فيها، وهذه الأعمال هي : ” عذبة ” ( 2005 ) ـ حرمتان ومحرم ” ( 2007 ) ـ ” قصة عشق كنعانية ” ( 2009 ) ـ ” سروال بلقيس ” ( 2014 ).
ومن رواياته التي يظل الهمُّ الفلسطيني أحد هواجسِها، وإن لم تكنْ قضية فلسطين الموضوعة الأساس فيها، روايته ” باب الهوى ” التي سنحاول مقاربتها وتناولها بالدرس والتحليل حسب ما يتيحه لنا المقام .
قرأتُ هذه الرواية مؤخراً، فاستمتعت واستفدت : اسْتمتعت بالفنِّ الروائي المحتفي بطرائق الحكي التي تقوم على التلاعب بالزمن الروائي ، حيث ينتقل بك السارد ـ المشارك “خليل” من الزمن الحاضر إلى المستقبل عن طريق ما يدعوه “جيرار جينيت” بالاستباق ” Prolepses ”
( انظر : Figures 3 Editions du Seuil,Paris 1972 , pp.107 )، ثم يعود إلى الزمن الذي يسرد فيه الأحداث التي تقع فيه حاضراً ( زمن القصة ) ، وغالباً ما يَستخدم تقنيةَ الارتداد ( Analepses ) حين يحكي عن احتلال فلسطين سنة 1948 ومأساة الشعب الفلسطيني وطرده من وطنه إلى المخيمات في البلاد العربية المجاورة. كما تمتعت بالتعليقات الساخرة والمقارنات ذات الدلالة بين واقع الحياة في أوروبا وواقع الحياة في البلاد العربية المبثوثة في العديد من الفقرات السردية في الرواية. هذا فضلا عن الأحداث والوقائع المهولة والمآزق الخطيرة التي تعرض لها السارد في أرض الغربة. واستفدت أيما استفادة من المعرفة التي يقدمها لنا الكاتب من خلال رحلة السارد ـ المشارك إلى عدة بلدان وعواصم ومدن أوروبية وأسيوية أهمها برلين وميونيخ وبون وجمهورية بافاريا وبعض بلاد أوروبا الشرقية وإستانبول في تركيا ، وعبر مشاهداته وزياراته لمآثر تاريخية وغيرها من المزارات المختلفة. لقد قام السارد ـ المشارك خليل بثلاث رحلات إلى ألمانيا : الأولى سنة 1982 ، وذلك لحضور مؤتمر دولي لقادة شباب الأرياف في مدينة موينخ التي كانت مسرحا للأحداث ألأليمة الشهيرة المتمثلة في ًقتل خمسة فدائيين فلسطينيين من لدن كوماندو ألماني في ملعب رياضي في دورة الألعاب الأوليمبية سنة 1972 ؛ الثانية قام بها سنة 1985 ، تلبية لدعوة من لدن “اتحاد مزارعي ألمانيا الغربية ” صحبة عدد من الإعلاميين الزراعيين العرب لحضور أسبوع برلين الأخضر ؛ الثالثة سنة 1992 قام بها مع مجموعة من ا‘لإعلاميين الأسيويين إلى ألمانيا الموحدة بعد سقوط جدار برلين ، وذلك في زيارة إعلامية الهدف منها تقديم صورة مشرقة لألمانيا المتقدمة علمياً وتكنولوجياً في المجالات الصناعية والزراعية. واللافت لنظر القارئ تقديم المؤلف للسارد الشخصية خليل الأردني الجنسية الفلسطيني الأصل ابن رام الله ، في صورة الفلسطيني الغيور على قضيته المتشبث بها القابض على جمرها الرافض بشدة وصرامة لواقع الاختلال الإسرائيلي الذي اغتصب وطنه وشرد شعبه ، ويمثله الشابان الإسرائيليان شاؤول وأوشر اللذان يحاولان استمالته وإقناعه بالعمل معا من أجل تحقيق السلام. هذا السلام الذي لم ينعم هو به قط . يقول متهكماً على دعوتهما : ” السلام وما أدراك ما السلام ، الذي لم أشْعُر به منذ ولدتُ ، ولن أراه حتى وفاتي التي لا أعلم متى تكون ” ( ص : 75 ) .
حتى علاقة الحب التي بدأت تنشأ بينه وبين الفتاة الشقراء القادمة من جنوب إفريقيا ستتوقف بسبب حملها أفكاراً عنصرية استعمارية ، لأنها تجسد العنصرية والاحتلال اللذين يعاني منه شعبه الفلسطيني من لدن المحتل الصهيوني الغاشم ( انظر الرواية ، ص ، ص : 53 وما بعدها ). نجد صلابة الشخصية الرئيسة في الرواية أيضاً في موقف له دلالته القوية ، وهو رفضه البات لدفعه الرشوة ( عشر ليرات ) في نقطة الحدود السورية ، رغم تعرضه للكثير من المضايقات والاستفزاز والترهيب من لدن رجال الجمارك والمخابرات المخيفين ، وهو على باب الهوى ، هوى الوطن الذي اغترب عنه ، أرضه العربية الحبيبة التي اشتاقَ إلى تُرابها. إن باب الهوى هنا تغدو فضاء العتبة حسب باختين . ذلك الفضاء هو فضاء الأزمة والقلق، فالإنسان فيه لا هو في الداخل ولا هو في الخارج . بمعنى أنه فضاء موحش عدواني، يثير الاشمئزاز والقلق والغثيان. وبتعبير آخر هو فضاء الكوارث التي تعصف بالإنسان المقهور داخل مجتمع محبط ، تنعدم فيه القيم الأصيلة، حيث تتحول القيم المعنوية أو الكيفية إلى قيم مادية واستعمالية قائمة على الغَرضية والمنفعة والتبادل. ( انظر : د. جميل حمداوي، الرواية البوليفونية أو الرواية المتعددة الأصوات ، موقع الألوكة ) ، والحقيقة أن الكاتب ركز جميعَ أنواع وأشكال الفساد التي تسود البلاد العربية في آفة الرَّشوة ، أو رمز بها إلى كل الفسادِ المسْتَشْري فيها ، ولعل ما يؤكد إثارة الانتباه إلى هذا الوضع غير السليم الذي يقوم عائقاً إزاء أي تقدم وازدهار ورخاء لشعوبنا العربية، هو عبارة الإهداء التي نجدها في الصفحة الأولى من الرواية ” إلى كل من لم يرشُ وإلى كل من لم يرتشِ ” على باب الهوى.
د. عبد الجبار العلمي