كتابات في تاريخ منطقة الشمال:
“أبعاد المغرب الكبير”
صدر كتاب “المغرب الكبير: الحدود، الرموز، والمجالات (القرنان 18-20)” (بالفرنسية)، لمؤلفه دانييل نوردمان سنة 1996، في ما مجموعه 258 من الصفحات ذات الحجم الكبير، وذلك ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. والمؤلف يظل أحد أبرز العارفين بخبايا تاريخ المغرب الطويل، إذ بدأ مسيرته الجامعية بكلية الآداب بالرباط خلال الفترة الممتدة بين سنتي 1966 و1969، قبل أن ينتقل للتدريس بكليات الآداب بكل من ريمس وباريس، ثم بالمدرسة العليا للأساتذة بباريس. وهو الآن مدير الدراسات بالمركز الوطني للبحث العلمي (CNRS). وقد تخصص في دراسة تاريخ تطور المجال وتمثلاته الجغرافية المرتبطة بقضايا الحدود والأبعاد والتوطين وتشكل الدولة وبروز علم الجغرافيا والكارتوغرافيا ومصنفات الرحلات ونصوصها السردية. وفي كل ذلك، ظل هاجسه الارتقاء بأعماله إلى مستوى التركيبات المقارنة المستندة إلى تجارب كل من فرنسا من جهة، والمغرب والجزائر من جهة ثانية، وذلك خلال الفترات الزمنية المكونة لما يعرف بالتاريخ المعاصر.
وتعود أهمية هذا النوع من الاجتهادات إلى الغياب شبه الكلي لقضايا الحدود وإشكالات تنظيم المجال المغربي داخل حقول الدراسات التاريخية المغربية المعاصرة. فالموضوع لم يدرس إلا على هامش بعض الأطروحات الجامعية التي تعد –في حدود علمنا- على رؤوس الأصابع. كما أن القراءات ظلت –في الكثير من الأحيان- واقعة تحت تأثير تداعيات المشاكل الراهنة لحدودنا الشمالية والجنوبية والشرقية، وملابساتها السياسية والديبلوماسية التي شكلت إحدى الانشغالات الكبرى للدولة المغربية خلال مرحلة ما بعد حصولنا على الاستقلال السياسي. لذلك، فقد اكتست أعمال دانييل نوردمان قيمة معرفية غير مسبوقة، بجدة مواضيعها، وبحسن اقترابها وإنصاتها لمجالات الدراسة، وبانفتاحها على مظان مصدرية غزيرة ومتنوعة، وبتنقيبها في رصيد ثري من الوثائق الدفينة، وبجرأتها الأكاديمية الرفيعة في تجديد القراءات المصدرية الأساسية وعلى توسيع الرؤى والزوايا المنهجية التي كان ينظر من خلالها إلى مجال الدراسة. وبكل ذلك، استطاع الباحث إضاءة الموضوع بتساؤلات مجددة ظلت إما غائبة في رصيد الإسطوغرافيا الكلاسيكية العربية الإسلامية، أو وظيفية في رصيد الإسطوغرافيا الكولونيالية، أو ملتبسة في رصيد الكتابات الوطنية المعاصرة. ولعل من أهم الإضافات التي قدمها هذا العمل، إثارته لقضايا شكلت عناصر أساسية في مجموع التمثلات الذهنية التي طبعت العلاقة التلازمية للمغاربة بوطنهم كفضاء جغرافي مركب، إلى جانب مجموع التمثلات التي تراكمت لدى “الآخر” الأوربي الغازي تجاه واقع هذه العلاقة التلازمية. وفي سياق هذا التصنيف الهوياتي الذي تتداخل فيه جهود الكشف عن القيم الرمزية لمفاهيم حضارية جوهرية في مجال الدراسة من قبيل “الأنا” و”الآخر” و”المغايرة”، مع النبش في ميكانزمات تكون الدولة وفي منطلقات تنظيم المجال الجغرافي الوطني وفق ثوابت تاريخية ترسخت أسسها على الأقل منذ مطلع القرن 15م، تبرز منطقة الشمال المغربي كواجهة محورية في تفاعل “الذات” مع “الآخر” وذلك في مختلف المستويات المتشعبة والمتداخلة. ومعلوم أن هذه المنطقة قد ظلت قاعدة انفتاح المغرب على “الآخر”، ليس فقط لأنها شكلت نهاية خطية لحدود “دار الإسلام”، وبل وكذلك لأنها نجحت في التحول إلى نقاط ارتكازية في تعرف المغاربة على المكتسبات الحضارية لهذا “الآخر”، وفي رسم سقف الاصطدامات المختلفة التي ميزت مجموع العلاقات التي ربطت ضفتي البحر الأبيض المتوسط الشمالية والجنوبية ببعضهما البعض.
تتوزع مضامين كتاب “أبعاد المغرب الكبير” بين تقديم عام وأربعة أقسام رئيسية قاربت الموضوع في مستوياته المتكاملة، إلى جانب خاتمة تركيبية بأهم الخلاصات والاستنتاجات. ففي التقديم، استفاض المؤلف في توضيح منطلقاته النظرية التي تحكمت في انشغالاته العلمية حول قضايا الحدود ببلادنا وحول المفاهيم المهيكلة لهذه القضايا حسب ما اغتنت في وعي الناس وفي مسارها التطوري البعيد المدى. وفي نفس السياق كذلك، رصد المؤلف المعطيات التاريخية والجغرافية الأساسية المرتبطة بمعالم “الأرض المغربية” وبهوامشها التي ارتبطت معها بعلاقات اندماجية أو بأشكال متعددة من العزلة التنافرية مع المركز في ظروف استثنائية معروفة. وبارتباط مع مجمل هذه العلاقات، حرص المؤلف على ربط قراءاته للموضوع بخلاصات الرؤى الفرنسية التي أنتجتها الرحلات العديدة التي قصدت بلادنا خلال القرن 19 بشكل خاص، وذلك بهدف الكشف عن كل أشكال التقاطب أو التنافر التي تحكمت في فهم كل من المغاربة والفرنسيين لحدود دولهما ولامتداداتها الإقليمية والدولية.
وبعد هذا التقديم العام، انتقل المؤلف في القسم الأول من الكتاب والمعنون ب”الحدود في علاقتها بالداخل وبالخارج”، إلى رصد الإشكالات التاريخية الكبرى التي تحكمت في قضايا الامتداد الجغرافي للحدود الرئيسية بين كل من أوربا والمغرب الكبير خلال القرن 19. وقد وسع مجال الدراسة في هذا الباب بتخصيص فصل مستقل لتوضيح الدور الذي قام به الجيش الفرنسي بالجزائر في فرض أمر واقع جديد على المغرب أثر كثيرا على انسجام رؤى المخزن تجاه حدوده الداخلية وتجاه حدود “الآخر” المسلم أو النصراني خلال مرحلة نهاية القرن 19 وبداية القرن 20. وقد اهتم المؤلف بتوضيح تجليات هذا “الأمر الواقع” من خلال تتبع خبايا التغلغل الاستعماري ببلادنا ومراحله، ومن خلال توضيح خصائص هذا التغلغل سواء في شقه العسكري الميداني المباشر، أم في شقه الديبلوماسي الموازي، وكذا من خلال التعريف بالأدوار الحاسمة التي كانت للجنرال ليوطي في تمهيد المجال المغربي أمام الغزو الاستعماري الفرنسي أثناء عمله بالجزائر.
وفي القسم الثاني من الكتاب، انتقل دانييل نوردمان للحديث عن أنساق الحكم المخزني، وعن آليات “الحركات” باعتبارها أبرز مظهر للرموز السيادية لهذا الحكم في علاقاته بمجالاته الجغرافية المتباينة. وقد اعتمد في ذلك على توظيف مضامين مذكرات هامة خلفها أسير إنجليزي بالمغرب اسمه توماس بيلو خلال النصف الأول من القرن 18، وعلى تحليل معطيات إحصائية دقيقة ل”حركات” السلطان الحسن الأول خلال العقود الأخيرة من القرن 19. وفي كل ذلك، ظل المؤلف حريصا على ضبط المواقع الجغرافية، وعلى حصر الأرقام التفصيلية، وعلى توضيح خطوط مرور “الحركات”، وعلى تقديم وصف دقيق “للمحلة” السلطانية ولمرافقها المدنية والعسكرية.
وفي القسم الثالث من الكتاب والمعنون ب”العلوم والغزو”، توقف المؤلف عند دور البعثات العلمية في تأطير مهام الغزو الاستعماري. في هذا الإطار، سعى إلى رصد التجربة الجزائرية للفترة الممتدة بين سنتي 1840 و1860، قبل أن ينتقل ليستفيض في الحديث عن الكتاب الضخم “استكشاف المغرب” لصاحبه شارل دي فوكو الصادر سنة 1888. وارتباطا بنفس الموضوع، انتقل المؤلف لتوضيح طبيعة الأدوار التي اضطلع بها علم الجغرافيا الفرنسي في ميدان الغزو الاستعماري لشمال إفريقيا خلال القرن 19، معتمدا في ذلك على توضيح ملابسات الاستكشاف العلمي للأراضي الجزائرية، وعلى الكشف عن حقيقة أدوار الجمعيات الجغرافية التي انتشرت بفرنسا على نطاق واسع خلال هذه الفترة. وقد فصل الحديث في نفس السياق عن نماذج محددة تركت بصماتها الواضحة على التاريخ الاستعماري الفرنسي، وارتبطت بقصص الرحلات العجائبية التي خلفها جول فيرن، وكذا بالأدوار الجديدة التي أصبح يقوم بها البحث الجغرافي الجامعي بهذا الخصوص.
أما في القسم الرابع من الكتاب، فقد عاد المؤلف لرصد تمثلات النخب الفرنسية لمكونات التركيبة البشرية لشمال إفريقيا بمكونيها العربي والأمازيغي، كما اهتم –في نفس الإطار- بضبط مفهومي “الترحال” و”البداوة” باعتبار دورهما الإجرائي والأساسي في فهم خصوصيات التركيبة البشرية المذكورة. وقد ختم المؤلف كتابه بتقديم دراسة تركيبية حول سقف توظيف مفاهيم إجرائية في مجال دراسة تاريخ كل من فرنسا والمغرب، وخاصة على مستوى ضبط سياقات تشكل البنى المجتمعية وأوجه انتظاماتها البشرية في المنطقتين.
وبذلك قدم دانييل نوردمان عملا رائدا، ساهم في إثارة الانتباه إلى قضايا حاسمة في مسار تشكل الهوية والدولة المغربيتين على امتداد الفترات الزمنية الطويلة الماضية. ولا شك أن هذا النبش في ديناميات تكون الحدود التاريخية للمغرب وأشكال تمثل ذهنيات المغاربة لهذه المسألة، قد أسدى خدمة متميزة للبحث التاريخي الوطني المعاصر، وذلك من خلال العمل على ملء الفراغ الذي طبع مجال الدراسة على مستوى تطور أنساق مكونات الهوية المغربية، وعلى مستوى جدل مكوناتها الداخلية وتفاعل ذلك مع المؤثرات الخارجية.
أسامة الزكاري