- 1. كان تتويج المسار الأكاديمي لعلاّمتنا محمّد حجي بحصوله على شهادة الدكتوراه من جامعة السربون الفرنسية سنة : 1976م، عن موضوع أطروحته : «الحركة الفكرية في عهد السّعديين» تحت إشراف الأستاذ والمستشرق الفرنسي : “شارل بلاّ ” ، وهي الأطروحة التي تقول عنها إحدى الأكاديميات المغربيات :
- استخدم فيها التشريح المناسب للنصوص التي تناولت العهد السعدي رغبة في الكشف عن أسرار التاريخ وخباياه، واستفسار أحداث العصور والأزمنة المتعاقبة والمؤثرة بعضها في بعض، فأضحى الكتاب من أهمّ المراجع عن دولة المنصور الذهبي والتيارات الفكرية التي تخللت عهده وعهد الملوك السعديين خاصة، والمؤّسس مع سابقه (الزّاوية الدّلائية) لمنهج تحليلي عمل على تطوير مفهوم البحث التاريخي”.
- وتعتبر هذه الأطروحة الفكرية العميقة رابع أربعة من الكتب المنسّقة لتاريخ الفكر المغربي، و التي شكلت في مجموعها عقدا فكريا فريدا وخيطا ذهبيا ناظما لأعمال هذا الفكر عبر تاريخه؛ أُضيفت إلى كتاب الفقيه المرحوم محمد المنوني: «حضارة الموحدين»، وكتاب الأستاذ محمّد بنشقرون: «الحياة الفكريّة في عهد المرينيّين» وكتاب الأستاذ محمّد الأخضر: «الحياة الفكريّة في عهد العلويين». يقول الدكتور أحمد التوفيق: ” لقد جعل الأستاذ موضوع بحثه الرئيسي هو العصر السعدي منذ بحث في الدلائيين، وواصل حتى أتمّ مسحاً كاملاً شاملاً للحركة الفكرية بالمغرب في عهدهم، في الأطروحة التي قدّمها تحت إشراف شارل بيلا بجامعة السربون، وكان هذا الأخير يقدّر ثقافة الأستاذ واطلاعه، وكان يدرك ولا شك أنّ أعمال جرد وخريطة، سابقة عن وضع الإشكاليات الـمُفتَتِن بها عددٌ من الناس منذ الستينيات، هذه الأعمال تتطلبها مرحلة البحث في المغرب”.
- و”شارل بلاّ” (Charles Pellat ): [ 1914-1992] المقدّر لثقافة علاّمتنا محمد حجي وسعة اطلاعه، والمشرف على أطروحته، مستشرق فرنسي اهتمّ كثيراً في دراساته وأبحاثه بشخصية الجاحظ، ولد في 28 شتنبر 1914 ، في مدينة سوق أهراس الجزائرية من أسرة متواضعة تمتهن العمل في السّكك الحديدية، توزّعت حياته بين الجزائر والمغرب وفرنسا، حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة باريس في موضوع: (الوسط العلمي في البصرة وتنشئة الجاحظ)، وعُيّن أستاذاً في معهد الدّراسات الإسلامية في كليّة الآداب بجامعة باريس، كان غزير الكتابة البحثيّة والإنتاج العلمي، وقد عدّد الدّكتور عبد الرحمان بدوي في «موسوعة المستشرقين» أهمّ أعماله، وهي: ( الجاحظ في بغداد وسُرّ من رأى)، ( الإمامة في مذهب الجاحظ) ( ردّ الجاحظ على النّصارى) ( الجاحظ ومذهب الخوارج) ( الجاحظ: الأمم المتحضّرة والعقائد الدّينية) ( الجاحظ والهند) بالإضافة إلى تحقيقاته لبعض نصوص الجاحظ المخطوطة، ومن ذلك: ( كتاب التربيع والتدوير) له، و(رسالة في نفي التّشبيه) و(القول في البغال)، وغيرها الكثير، توفي يوم الأربعاء 28 أكتوبر، سنة: 1992.
- تقدير “شار بلا” لعلاّمتنا محمد حجي بدأ عندما اطلع على كتابه «الزّاوية الدّلائية» ووقف فيه على المجهود الفكري الذي بذله حجي في هذا الكتاب، وتمعن في الاتجاه البحثي الذي سلكه في تناوله لتاريخ الزّاوية الدّلائية القائم على إبراز الدّور الفكري والإشعاع العلمي بالدّرجة الأولى لهاته الزّاوية قبل الأدوار السياسية؛ باعتبار أنّ السّياسة كانت آخر مرحلة اهتمّ بها أهل الدّلاء وقد عجّلت بانقضاض شوكتهم وتفريق جمعهم.
6.يقول علاّمتنا في سياق حديثه عن مشرفه وإرهاصات أطروحة «الحركة الفكرية في عهد السّعديين» في حديث عميق لا يخلو من دلالات: ” كتاب الزّاوية الدّلائية كتاب بسيط، إلاّ أنّه كان له صدى، خصوصا عند المستشرقين، ومنهم: الأستاذ “بيلاّ” والأستاذ “جاك بيرك”، وكلّهم يشتغلون بالمغربيات، ومسألة الزّاوية الدّلائية كانت لغزاً لديهم، وكان الأستاذ إبراهيم بوطالب قد كتب حول كتابي في مجلة «هيسبريس» فلقي قبولاً، فألحّ عليّ الأستاذ “بلاّ” أن ألتقيه، فذهبت عنده إلى باريس وقضينا وقتاً في النّقاش حول الكتاب، ساعتين، أو ثلاثة، وفي الأخير سألني:
- ماذا تريد أن تفعل مستقبلاً؟ فقلت له: سأستمرّ في نفس السياق فشجعني باعتبار الموضوع يتفرّع إلى الكثير من المواضيع، وذكرت له أنني أحبّذ أن أرجع إلى ما قبل، لأنّ هناك الكثير من الأمور التي يحيل عليها ولا يذكرها، وتكلّمنا كثيراً عن العصر السّعدي، ولمـّا أردت الانصراف سألته عن وجهة نظره، فقال لي: لقد اخترت الموضوع الآن، وهو: الحياة الفكرية في عهد السّعديين، فقلت: له طيب، سأعدّ تقريراً حول الموضوع وأبعثه لك، فقال لي: لماذا التقرير؟ فماذا كنّا نعمل قبل ساعتين! فإذا أردت أن تسجّل الآن فلك ذلك، ثمّ أعطى موافقته هاتفيّاً لإدارة كليّة السربون”.
- اختيار علاّمتنا محمد حجي الحركة الفكرية في عهد السعديين موضوعاً لأطروحته لم يتأت من فراغ أو جرّاء اقتراح مباشر، وإنمّا أتى نتيجة لتراكم معرفيّ نماه قراءته لتاريخ هذا العصر وبالأخص في عهد انحطاطه، ” لا سيّما وقد سبق وأن احتككت طوال سنوات بأحداث آخر هذا العصر ورجاله أثناء دراستي للزّاوية الدّلائية الأمر الذي حبّب إليّ التعرف على خلفيّات تلك الأحداث وأسلاف أولئك الرّجال من علماء وأدباء لتكوين نظرة شاملة عن عصر يعدّ من أكثر عصور تاريخنا الحديث نشاطاً وحيوية. ليست هذه الدّراسة لإشباع رغبة شخصيّة في توسيع ميدان الاطلاع وربط الأحداث فحسب، ولكنّها-فيما أعتقد-ضرورية لكشف القناع عن الحياة الثقافية في بلادنا، ثمّ إنّ مثل هذه الدّراسة ضرورية كحلقة في سلسلة الدّراسات التي أخذت تظهر للتعريف بالحياة الثقافية بالمغرب في مختلف عصور تاريخه الإسلامي”.
9 . الملفت هو أنّ علاّمتنا لم ينجز أطروحته إلا بعد عشرة من السّنين كاملة وقد زادت، إلى أن بدأت تصله رسائل من مشرفه تنبّهه على تأخره، ولم يكن سبب هذا التّأخر بالنسبة لمؤرّخنا إلا تلكم الوظائف الإدارية المتوالية التي أرهقت كاهله، وأخذت من وقته الكثير الكثير، ولذلك كان من كلامه: ” وعلى أيّ حال؛ فالعمل الإداريّ لا يترك وقتاً لمن يشتغل به ليعمل عملاً آخر، في نظري أنّ الإنسان يجب أن يختار إمّا أن يعمل في الإدارة ويكتفي بها ويعيش، ولكن من أراد أن يعمل شيئاً آخر وأن يبحث وأن يكتب ويعمل عملاً من هذا النّوع الذي يعمله زملاؤنا لا بدّ أن يبتعد عن الإدارة ويشتغل بميدان التدريس لأنه هو الميدان الذي يشجّع الإنسان على البحث، وعلى مواصلة العمل في الميدان الذي يختاره”.
- مشوار المرحوم محمد حجي مع الوظائف والمناصب والمسؤوليات مشوار طويل، فقد أخذت أكثر من أربعين سنةً من عمره قضاها متقلّبا ما بين المناصب الإدارية والمناصب التربوية والمناصب السامية؛ انطلق علاّمتنا محمّد حجّي في مشواره المهني من معلّم في مدرسة محمّد جسّوس ( 1943-1944)، إلى مدير مدرسة الفتاة السّلاوية الحرّة ( 1945-1948)، إلى معلّم في التّعليم الرّسمي بثانوية أزرو، ثمّ في مدرسة المعلّمين الإقليمية بالرّباط ( 1949- 1956) ، إلى أستاذ بثانوية مولاي يوسف بالرّباط (1956-1957) إلى مدير مدرسة المعلّمين الإقليمية بمرّاكش (1957-1959) إلى مفتّش للتعّليم العربي، ثمّ مفتّش إقليمي للتعليم بالرّباط سنة: 1959-1961)، إلى مفتّش أوّل بوزارة التّربية الوطنية ( 1961-1962)، إلى نائب وزارة التّربية الوطنية بإقليم الدّار البيضاء (1961-1964)، إلى رئيس قسم البحث والعمل التّربوي بوزارة التّربية الوطن ( 1964-1967)، إلى أستاذ مساعد، ثمّ محاضر، ثمّ أستاذ التّعليم العالي بكلّية الآداب والعلوم الإنسانية- جامعة محمد الخامس بالرّباط ( 1967-1979)، إلى عميد كليّة الآداب والعلوم الإنسانية بنفس الجامعة ( 1979-1981) إلى مدير المدرسة المولوية ( 1982-1984).
- ولا يسبق إلى ذهن القارئ فيعتقد أنّ هذه الوظائف كانت شاغلةً للمرحوم محمد حجي وثانيةً له عن خوض غمار القراءة والتّأليف والبحث والتنقيب في الفكر المغربي وتاريخه وأعلامه رغم نصيحته المشفقة لأمثالنا من صغار الباحثين، فإنّ أربعين سنة التي قضاها في تحمّل المسؤوليات المختلفة توّجها بأكثر من أربعين مؤلّفاً ما بين تأليف وتحقيق وترجمة، إضافة إلى العشرات والعشرات من المقالات والأبحاث والدّراسات التي شكّلت رافدا فكريا تضاف لمؤلفاته وتحقيقاته في جهد فكريّ قلّ نظيره، وعزيمة صلبة لا يُلحق شأوها، وإصرار وعصامية ضُربت بهما الأمثال، وذاك حديث آخر…!
يتبع…
د. محمّد شابو