“أصيلا: رؤى محلقة في الأعالي” (ديوان شعر)
جريدة الشمال – أسامة الزكاري ( أصيلا )
الجمعة 12 ينــاير 2018 – 16:58:21
وإذا كانت مبادرة ترسيخ هذا النهج قد ارتبطت بتجارب الكتابة لدى أبناء المدينة من مبدعين ومثقفين، مثلما هو الحال –على سبيل المثال لا الحصر- مع أعمال أحمد عبد السلام البقالي ومحمد البوعناني والمهدي أخريف وأحمد هاشم الريسوني ومحمد المليحي وخليل الغريب ومحمد أولاد محند وإدريس علوش…، فالمؤكد أن الأمر يظل أكثر ارتباطا بتجارب رواد المدينة وعشاقها ومريديها، ممن رمت بهم الصدف إلى ضفاف أحضانها الشاعرية، فخلفوا عنها كتابات وأعمال، لا شك وأنها أصبحت مصدرا للبحث في صور التمثلات الذهنية الجماعية التي تخلقها فضاءات المدينة ومكنونات المخيال الجماعي، مما يسهم في القبض بمعالم الهوية الثقافية المحلية التي تطلب أمر صقلها وترصيصها عقودا زمنية طويلة، قبل أن تصبح عنوانا لهذا الانتماء الحضاري الذي نستظل بظلاله الوارفة تحت اسم مدينة أصيلا. ولعل في نصوص إبداعية وتأملية مرجعية لمبدعين مغاربة وأجانب، خير مثال على هذه الخاصية، ذلك أن الزوار يلتفتون –في الغالب الأعم- إلى الكثير من الجزئيات والتفاصيل المجهرية التي قد لا تثير أدنى اهتمام لدى أبناء المدينة، بحكم انتظامها داخل نسق الحياة اليومية الاعتيادية، والذي لا يستحق –في نظرهم- أن يكون موضوعا للتدوين أو للتوثيق أو للاستثمار. بمعنى آخر، إن ما قد يبدو اعتياديا لدى صانعي هذه التفاصيل، قد لا يكون كذلك لدى المريدين من الزوار، بحكم طابعه المخصوص بسمات قد لا تكون موجودة في أي جزء آخر من العالم غير هذه المدينة. نقول هذا الكلام، ونحن نستحضر نصوصا تأسيسية في مجال توظيف غنى المكان في إنتاج أعمال وتجارب إبداعية، كان لها دور مركزي في تخليد الكثير من عناصر التراث الرمزي للمدينة، مثلما هو الحال مع رواية “المجرى الثابت” لإدمون عمران المالح، أو مع نص “المقهى الأزرق” لنفس المبدع، أو مع رواية “رحيل البحر” لمحمد عز الدين التازي، أو مع نص “خرائط تمشي في رأسي” لأحمد المديني، أو مع رواية “أصيلا” لجميل عطية إبراهيم، أو مع نصوص “أصيلة… أصيلة” لشاكر نوري،…
في سياق تدفق نهر “كتابة أصيلا”، يندرج صدور ديوان “أصيلا.. رؤى محلقة في الأعالي”، باللغة الإسبانية، للشاعر الإسباني المتيم بحب أصيلا خابيير بارييو دي لاموطا، سنة 1992، في شكل احتفاء باذخ بمعشوقة مارست سلطة رهيبة على ذات المبدع وجعلته يترجم ذلك في نصوص لا شك وأنها تعيد الإنصات لنبض التحول العميق داخل مكونات المكان الثري وعبر ملامح وجوه الناس البسطاء. تحضر فضاءات مدينة أصيلا داخل نصوص الديوان كشواهد على أصالة الانتماء وعلى جمال العين الملتقطة لعناصر الخصب والتميز، مثلما هو الحال مع نص “باب القصبة” أو مع نص “القريقية”.
ولعل من ملامح التميز في هذا النمط من التوظيف الشاعري، ابتعاده عن تقديم كليشيهات كارطبوسطالية (بطائق بريدية) براقة، وكذا عن تقديم رؤى مفرطة في الانغلاق وفي التمركز حول شوفينياتها وفي الاطمئنان إلى يقينياتها. وفي المقابل، نحا المؤلف –بشكل واضح- نحو التوثيق لما لا يمكن التوثيق له خارج منطق اشتغال الكتابة الإبداعية التخييلية. وهي قضايا، يجد الكاتب المتخصص، بمعناه الحصري الضيق، الكثير من الصعوبة للإمساك بتفاصيلها ولتدوينها ولتطويعها في سعيه لتحويلها إلى أرضية للتأمل وللتفكيك وللتحليل وللاستثمار.
يحضر التاريخ بين صفحات هذا الديوان، كمعالم شاهدة لازالت تبسط سلطتها التاريخية على الساكنة وعلى الزوار، كما يحضر كوجوه مرت من هنا وتركت بصمات لا تمحى، مثلما هو الحال مع الملك البرتغالي دون سبستيان الذي قتل في معركة وادي المخازن سنة 1578، بعد أن كان قد مر من مدينة أصيلا في الظروف التاريخية المعروفة، مخلفا وقائع لازالت كتب التاريخ الإيبيري والمغربي تحفظ تفاصيلها ووقائعها، وهي الوقائع التي استطاع خابيير باريو دي لاموطا توظيف دلالاتها التاريخية داخل إحدى نصوصه التخييلية والاستلهامية للديوان. ولا شك أن قراءة مثل هذه التوظيفات تساهم في توفير المادة الخام الضرورية للبحث في خصوبة عطاء التاريخ الثقافي المنتج للرموز وللتعبيرات الفنية والجمالية المرتبطة بفضاءات المدينة وبتحولات تاريخها المديد، ليس فقط بالنسبة لأبناء المدينة، ولكن -كذلك – بالنسبة لكل مريديها ولكل عشاقها الذين أصابتهم لوثة فتنة المكان وعمق الرموز وروعة الوجوه.