إذا كانت شهادة الزور مذمومة فشهادة الحق محمودة
الجمعة 11 نوفمبر 2016 – 17:39:45
عن أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» ثلاثا، قلنا: بلى يا رسول اللّه، قال: «الإشراك باللّه وعقوق الوالدين»، لقد كان متكئاً فجلس، فقال: «ألا وقول الزّور وشهادة الزور»، فما زال يكرّرها حتّى قلنا: ليته سكت. متفق عليه. اليوم افتتح الحديث بأسلوب الاستفهام في قوله صلّى اللّه عليه وسلم «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟». من الأساليب الدعوية المهمة التي تحصل بها لفت انتباه المدعوّين واستحضار أذهانهم، أن اللّه سبحانه وتعالى أرسل رسله وأنزل كتبه وخلق السماوات والأرض ليعرف ويعبد ويوحد، فيكون الدين كلّه للّه، والطاعة كلها له، والدعوة له، كما قال اللّه سبحانه وتعالى: «وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون».
لقد أخبر نبيّنا عليه الصلاة والسلام؛ أن أكبر الكبائر الإشراك بالله، إن الله سبحانه وتعالى حرّم الجنّة على كلّ مشرك، وأبى سبحانه وتعالى أن يقبل عملا من المشرك، أو يقبل منه شفاعة أو يستجيب له في الآخرة دعوة، فهو القائل: «إن اللّه لا يغفر أن يشرك ويغفر مادون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما» قال ابن كثبر: «فالمشرك أجهل الجاهلين حيث جعل في خلق اللّه نداء، وذلك غاية الجهل كما أنه غاية الظلم منه، وإن كان المشرك لم يظلم ربّه وإنما ظلم نفسه، وهذا ما أكّده في قوله سبحانه وتعالى: «إنّ الشّرك لظلم عظيم».
ثم ذكر النّبي صلى اللّه عليه وسلم كبيرة عقوق الوالدين بعد الشرك ليؤكد إثم من عقّ والديه، وقد رهب إلى ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم «ثلاثة لا ينظر اللّه إليهم يوم القيامة ثم ذكر منهم العاق لوالديه» رواه النسائي، قال النووي: ومعنى لا ينظر إليهم أيهم أي يعرض عنهم، الله سبحانه نظر لعباده رحمته ولطفه بهم. ثم أخبر رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم بقوله: (ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور) «فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت»، ويفيد ذلك تأكيد تحريم الزور وعظم قبحه، وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزور أو شهادة الزور أسهل وقوعا على الناس، التهاون بها أكثر، إن الإشراك ينوء عنه قلب المسلم، والعقوق يصرف عنه الطّبع، وأما الزّور فالحوامل عليه كثيرة، كالعداوة والحسد وغيرها، فاحتيج للاهتمام بتعظيمه، لقد كثر قول الزوربين النّاس وحضور أماكنه، والخوض فيه، فانتشرت شهادة الزور.
بما في ذلك من تضييع الحقوق، والإعانة على الظلم. لقد يكون معناها الفرار من مجرد الوجود في مجلس أو مجال يقع فيه الزّور بكل صنوفه وألوانه، ترفّعا عن شهود مثل هذه المجالس والمجالات. وهو أبلغ وأوقع. هم كذلك يصونون أنفسهم واهتماماتهم عن اللّغو والهذر: {وإذا مرّوا باللّغو مرّوا كراماً} وقد حذّرالحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام، من الزور، وقوله، والعمل به حتى قال «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». إن شهادة الزور سبب لزرع الأحقاد والضغائن في القلوب، لأن فيها ضياع حقوق الناس وظلمهم، وطمس معالم العدل والإنصاف، من شأنها أن تعين الظالم على ظلمه، وأن تعطي الحق لغير مستحقه، وتقوّض أركان الأمن، وتعصف بالمجتمع وتدمره. فشهادة الزور نوع خطير من الكذب، شديد القبح سيء الأثر، يتوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفس، أو أخذ مال أو تحليل حرام أو تحريم حلال ولافرق بين أن يكون المشهودبه قليلاً أو كثيراً، فضلا عن هذا المفسدة القبيحة الشنيعة جداً ولا يحلّ قبولها وبناء الأحكام عليها.
إذا كانت شهادة الزّور مذمومة فشهادة الحق محمودة، ولذلك قال اللّه تعالى:{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فاللّه أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا إن تلووا أو تعرضوا فإن اللّه كان بما تعلمون خبيرا} [النساء:135]. من موضوعات الدعوة المستنبطة من الحديث، حبّ الصحابة وشفقتهم على النبي صلى الله عليه وسلم، كما يظهر ذلك فيما قال رواي الحديث، ما يزال يكرّرها حتى قلنا ليته سكت، قال ابن حجر: أي تمنياه يسكت إشفاقا عليه لما رأوا من انزعاجه في ذلك، قال عمر بن الخطاب للعباس عم النبي: «أسلم فواللّه إن تسلم أحبّ كان إليّ من أن يسلم الخطّاب، وما ذلك إلا لما رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحب أن سبقا».