“إسبانيا والمغرب : علاقاتهما الديبلوماسية خلال القرن 19”
الجمعة 03 فبراير 2017 – 18:54:11
تعزز مجال البحث التاريخي الوطني الراهن بصدور الترجمة العربية لكتاب “إسبانيا والمغرب: علاقاتهما الديبلوماسية خلال القرن التاسع عشر”، لمؤلفه خرونيمو بيكر، سنة 2016، بترجمة راقية للأستاذ عبد العزيز السعود، وذلك في ما مجموعه 197 من الصفحات ذات الحجم الكبير. والكتاب الصادر في نسخته الإسبانية الأصلية سنة 1903 بمدينة مدريد يشكل سجلا توثيقيا لعطاء الديبلوماسية الإسبانية “الجريحة” خلال عقود القرن 19، في ضوء تواتر انكماش الإمبريالية الإسبانية وتواري أدوارها الحاسمة على الساحة الدولية عقب فقدانها لسلسلة مستعمراتها الواسعة الموروثة عن تبعات ظاهرة الاكتشافات الجغرافية الكبرى لمرحلة القرنين 15 و16 الميلاديين، وخاصة بالفلبين وبأمريكا اللاتينية.
وتعود قيمة الكتاب إلى الجهد التجميعي الكبير الذي بذله المؤلف من أجل ضبط الوقائع وتحليلها وربطها بسياقاتها، من موقعه كخبير في العلاقات الدولية التي تحكمت في مجمل مواقف إسبانيا المرتبطة بسياستها الخارجية للقرن 19. أضف إلى ذلك أن خرونيمو بيكر إي غنثالث (1857-1925) كان فاعلا مباشرا في الأحداث، بالنظر لوظيفته كديبلوماسي وكمؤرخ وكصحفي لامع، استغل منصبه كرئيس لأرشيف وزارة الداخلية ومكتبتها بين سنتي 1900 و1924، وكعضو بالجمعية الملكية للجغرافيا، وكمحافظ للمكتبة الملكية للتاريخ، من أجل الاحتكاك بالملفات الملتهبة للديبلوماسية الإسبانية الساعية إلى مجابهة المد الإمبريالي الجارف الذي اختزلته – بشكل خاص – الطموحات الفرنسية والإسبانية والإنجليزية والألمانية لعقود القرن 19.
وبخصوص السياق العام الذي أثمر هذا العمل، يقول المترجم الدكتور السعود: “شكلت العلاقات مع المغرب بالنسبة لإسبانيا مسألة هامة ومعقدة وحتمية على الدوام، فلقد فرض الجوار الجغرافي إشكالية استراتيجية وعسكرية واقتصادية واجتماعية لا يمكن تجاهلها بحيث ظل المغرب بالنسبة لها قضية دائمة. ومع ذلك فقد أضحى المغرب منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر قضية أوربا بل وحتى أمريكا حالما شرعت القوى الاستعمارية تهتم بالأزمات الداخلية التي أخذت تعصف بأحد البلدان الأخيرة في إفريقيا التي بقيت تحتفظ باستقلالها. وبالرغم من هذه النظرة الشاملة للمسألة المغربية فإن العديد من الكتاب المهتمين… ما انفكوا يعتبرون أن المسألة كانت تخص إسبانيا بالأساس وأنه قد مضى وقت كان بإمكان إسبانيا فيه أن تضم المغرب عملا بوصية إيسابيلا الكاثوليكية إلا أن التوسع أمسى مستحيلا بسبب وجود قوى أوربية متاخمة مع المغرب ومتطلعة لاكتساب نفوذ ترابي فيه، الأمر الذي بات يهدد سيادة إسبانيا على معاقلها في شمال المغرب.
لكن الدوائر السياسية الإسبانية باشرت القضية بجهل مطبق زاد من الصعوبات إضافة إلى تأثير الصحافة الأجنبية المثيرة، فلم يبق أمام الديبلوماسية الإسبانية من مسلك سوى التمسك بسياسة الوضع الراهن التي هي في الواقع سياسة للدفاع عن المصالح وإن كان هدفها في الظاهر هو الحفاظ على الإمبراطورية المغربية من التفكك. وتلك هي خلاصة الأطروحة التي عمل خرونيمو بيكر على طرحها في مؤلفه…” (ص. 5).
ويضيف الأستاذ عبد العزيز السعود، موضحا الأهداف الكامنة وراء تأليف الكتاب، قائلا: “ولقد كانت الغاية من تأليف هذا الكتاب حسب المؤلف نفسه هي تبديد الأخطاء التي جعلت الرأي العام في إسبانيا ينظر إلى المسألة المغربية في أوائل القرن العشرين كنظرته إليها في منتصف القرن التاسع عشر، وأن السياسة الإسبانية خلال القرن المذكور عرفت خيارات متعددة أدت إلى إبطال النفوذ الإسباني كليا عند نشوب حرب تطوان، بيد أن انتصار الجيوش الإسبانية رفع اسم إسبانيا عاليا داخل المغرب وخارجه وعزز مكانتها داخل بلاط السلطان، إلا أنه لم يكن من السهل عليها الانفراد بالمغرب لاسيما وأن الطموحات الأجنبية والأطماع المتباينة بينها وبين كل من فرنسا وإنجلترا ازدادت حدتها بظهور منافس جديد هو ألمانيا، ومع ذلك لم تكن هذه الأخيرة مصدر قلق كبير بالنسبة لإسبانيا التي كانت ترى في فرنسا عدوها المريع لأن مشروعها لتمديد حدود الجزائر حتى نهر ملوية وربط ناحية فكيك بالجزائر سيجعل مسألة توسيع حدود ممتلكات إسبانيا أمرا مستحيلا كما أنه سيعرض عرش البلاد للخطر. ويذهب المؤلف في النهاية إلى أن إسبانيا لم تعرف كيف تترجم نفوذها بالمغرب إلى وقائع إيجابية فضلا عن ارتكابها لأغلاط المترفعين حتى وجدت نفسها عند نهاية القرن التاسع عشر وقد تلاشى تقريبا حتى تذكار نفوذها السابق مقارنة مع دول أخرى كفرنسا وإنجلترا…” (ص. 9).
ولتوضيح هذه السياقات، اهتم المؤلف بالوقوف على جزئيات واقع التدافع الإمبريالي الذي دارت رحاه فوق الأرض المغربية بين القوى الأوربية الفاعلة، كاشفا عن الكثير من الخفايا الديبلوماسية غير المتداولة على نطاق واسع. ويبدو أن قربه من دوائر صنع القرار بإسبانيا خلال النصف الثاني من القرن 19، قد مكنه من الوقوف على تفاصيل الضغط الديبلوماسي الذي مورس على المغرب خلال المرحلة المذكورة، بشكل أهله لإعادة تقييم الروايات الرسمية في الكثير من التباساتها ومن تناقضاتها ومن عناصر تنافرها. وعلى الرغم من كل الانزياحات التي ارتبطت بتخريجات المؤلف بخصوص قضايا محورية في الصراع الديبلوماسي الأوربي حول المغرب، مثلما هو الحال مع معاهدة الصلح لسنة 1860 أو مع حيثيات انعقاد مؤتمر مدريد سنة 1880 أو ظروف احتلال إنجلترا لجزيرة “تورة” أو تداعيات قضية سانتا كروز دي مار بيكينيا أو أبعاد حوادث مدينة مليلية لسنة 1893، فقد ظل المؤلف حريصا على تدعيم وجهات نظره بغزارة استثنائية من الأدوات الحجاجية والتفاصيل الدقيقة والوثائق والمراسلات الدفينة، وهي المواد الغميسة التي لم يسبقه سواه إلى استغلالها في كتاباته التوثيقية لتحولات العلاقات السياسية بين المغرب وإسبانيا خلال القرن 19.
وإلى جانب ذلك، شكلت الإحالات المسترسلة تأليفا موازيا، سمح للمؤلف بتدقيق المعطيات وبالاستطراد في التعريف بالأعلام البشرية والمكانية، بشكل جعله يكتسب الكثير من الصفات التي ميزته عن “إسهال” الكتابات الإسبانية النمطية التي أفرزها الطموح الاستعماري الجارف لإسبانيا خلال القرن 19. وإذا أضفنا إلى ذلك، المستوى الرفيع للترجمة التي اعتمدها الأستاذ عبد العزيز السعود، أمكن القول إن الأمر يتعلق بإحدى أهم إصدارات سنة 2016 التي عرفها مجال البحث التاريخي الوطني، وخاصة المهتم منه بقضايا منطقة الشمال وبواقع التدافع الديبلوماسي الذي كان يؤطر مجمل مشاريع الغزو والاحتلال التي استهدفت بلادنا قبل السقوط النهائي في شرك نظام الحماية سنة 1912.
ولا شك أن توسيع آفاق هذه الترجمة الراقية بتشريح المضامين، تفكيكا ونقدا، سيفتح المجال واسعا أمام الإمكانيات الرحبة لاستثمار مجمل المضامين في كل جهود إعادة مقاربة تداعيات المشروع الاستعماري الإسباني فوق الأرض المغربية، ليس فقط خلال مرحلة القرن 19، ولكن –أساسا- على مستوى الامتداد الزمني الواسع الذي يغطي المرحلة الممتدة بين انفجار الغزو الإيبييري خلال القرن 15، ثم بين مرحلة انكسار الحلم الإسباني خلال منتصف القرن 20.