إهداء: إلى روح المسرحي الأستاذ امحمد مكروم الطالبي، تغمده الله بواسع الرحمة والمغفرة
الجمعة 22 يوليوز 2016 – 12:30:39
لستُ من أهل المسرح، وأخشى أن أكون ممن تجرأ على شأن خاص بأهله وحشر أنفه في ما لا يعنيه أو يفهم فيه، فيصدق عليّ من ثمّ قول الكاتب المسرحي الدكتور عبد الكريم برشيد: “أن أهل المسرح أدرى بشعاب المسرح، وأنه لا أحد يعرف بفلسفته وآلياته ومنهجياته وتقنياته ولغاته ومفرداته أحسن من المسرحيين أنفسهم” (عن كتاب “عبد الكريم برشيد وخطاب البوح حول المسرح الاحتفالي”: ص 97).
والحق أنني كنتُ وما زلتُ، بالرغم من تخصصي العلمي في الأدب المغربي القديم، أحرص على اختلاس لحظات من أجل قراءة نصوص مسرحية لبعض الكتاّب المغاربة من أمثال محمد تيمد والزبير بن بوشتى وعبد الكريم برشيد ورضوان احدادو والطيب الصديقي؛ بل إن “الزيغ” يبلغ بي، في مرات معدودة، حد اقتراف مشاهدة عروض في هذا الفن الرابع، كلما أتيحت لي الظروف.. ومن هنا، فإنني حرصتُ على المشاركة في هذه الجلسة العلمية الخاصة بالاحتفاء بالكتاب الموسوم بـ”عبد الكريم برشيد وخطاب البوح.. حول المسرح الاحتفالي” (أعددت هذه الورقة للمشاركة بها في حفل توقيع الكتاب المشار إليه بالدار البيضاء، بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للمسرح؛ غير أن ظروفا شخصية حالت دون أن تمكن من الحضور في اللقاء المذكور). وتقع مداخلتي في: برولوج، وثلاثة أنفاس وإظلام..
برلوج: دقة أولى في يوم غير بعيد، كنتُ أتحدّث إلى زميل صحافي يشغل منصب رئيس قسم بإحدى المؤسسات الإعلامية بالدار البيضاء.. وكان النقاش الذي اشتعل، حينها، حول عمل مسرحي بالكاد قد خبا.. وقد جرّني الحديث مع الزميل المذكور إلى ذكر اسم الأستاذ عبد الكريم برشيد باعتباره واحدا من الأصوات والأقلام التي أدلت بدلوها في النقاش والجدل الدائر حول الموضوع، ولم تكن مرّت على تعيينه رئيسا للجنة الدعم السينمائي سوى أيام معدودة؛ فلم أكد أنطق بالاسم حتى أعلن الصحافي تبرمه الشديد وامتعاضه غير المفهوم وعدم رضاه غير المتناهي على صاحب الاسم.. ولما لم أفهم سر الموقف، فما كان مني إلا أن وجهتُ السؤال إلى الزميل الصحافي عن العلة والسبب وراء تلك الحركة… فأجابني: “راه داك خيينا محافظ بزااااااااااااااااف… وأنا ما عنديش مع داك النوع…!!!”.. انتهى جواب الزميل، الذي يشغل رئيس قسم في منبر إعلامي محترم..
دقة ثانية: من الصدف الغريبة أنني اتصلتُ، أسابيع معدودة بعد الحادث الأليم، عبر الهاتف بالدكتور برشيد وحدّد معي موعدا غير بعيد عن مقر سكناه من أجل أن أسلم إليه بعض الكتب التي بعث بها إليه من تطوان الكاتب المسرحي الأستاذ رضوان احدادو، تداولت القصة السابقة مع الأستاذ عبد الكريم برشيد دونما تصريح باسم الزميل أو باسم المؤسسة الإعلامية التي يشتغل فيها بالطبع لأن للمجالس أسرارا؛ فما كان منه حفظه الله إلا أن علق ضاحكا: راه هناك صحف دايرة علي فيتو… ولا يمكن أن تجد في صفحاتها أي ذكر لاسمي (سمّى تلك الصحافة، وذكر لي منها منبرين اثنين).. قبل أن يخبرني بأنه على أهبة السفر إلى بلد مغاربي مجاور من أجل المشاركة في مهرجان مسرحي كبير هناك، واعدا إياي أن نحدد موعدا فور عودته من أجل اللقاء… افترقنا، وذهب كل واحد منا إلى حال سبيله.
دقة ثالثة أوردتُ هذه الواقعة التي سردتُ بعض تفاصيلها لأؤكد أن الرجل نجح في إيصال الرسالة؛ ما دام أن اجتهاداته وأعماله تسبب الإرباك والقلق لبعض الناس المخالفين، خاصة منهم الذين لا يلتزمون بالحوار العلمي الجاد والمبني على أسس فكرية وجمالية متينة… في طريق العودة إلى البيت، عاودتُ التفكير في الحديث الذي دار بيني وبين الزميل الصحافي، ثم أقلّب النظر في الحوار الذي راج بيني وبين الدكتور برشيد؛ فتيقنتُ، بلا ما يدع المجال للشك، أن القافلة تسير… وتسير… وتسير… ولو في بلاد الله الواسعة.. ومن هنا، فقد وجد الأستاذ برشيد في كثير من المؤسسات الثقافية خارج البلاد المتنفس الملائم والمجال الأرحب للنقاش والحوار في سبيل تطوير الأفكار والتصورات الجمالية والفكرية التي يتبناها ويدعو إليها ضمن ما اصطلح عليه “المسرح الاحتفالي”… رفع الستار..
نفس أول: برشيد وأنا.. مواعيد لا تقبل التأجيل تعود معرفتي بالأستاذ المبدع عبد الكريم برشيد إلى أوائل التسعينيات من خلال سماع اسمه يتردد على ألسنة بعض الأصدقاء المهتمين والذين كانوا يكبرونني سنا وثقافة ونضجا… وفي السنة الثالثة من الثانوي أو البكالوريا كما كان يطلق عليها حينها، كُتب لي أن أدرس مثل ما كتب لأبناء جيلي من التلاميذ مقطعا من أحد النصوص المسرحية التي أبدعها الأستاذ برشيد، ويتعلق الأمر هنا بـ”اسمع يا عبد السميع”.. ولم يكن مألوفا لدى كثير من أبناء جيلي أن نقرأ المسرح ضمن المقررات الدراسية؛ غير أنه من حسن الأقدار أن أستاذ مواد اللغة العربية (وكان النص مدرجا ضمن إحدى موادها: مادة النصوص) هو المخرج المسرحي والكاتب والناقد طيب الذكر امحمد مكروم الطالبي، الذي رحل عن هذه الدنيا الدنية في عز العطاء تغمده بواسع الرحمة والمغفرة، فحالفني الحظ للاستمتاع بالنص والاندماج في عوالمه الجذابة وغير المتناهية الجمال، لا سيما أن الطريقة التي كان يتبعها ويسلكها الفقيد الطالبي تتسم بقدر غير متناه من الإبداع والإتقان..
ومن الطرائف الرائعة التي ما زالت عالقة بذهني، نتيجة دراستي على الفقيد العزيز الأستاذ مكروم الطالبي، أن عشق المسرح وحبه استحكما في نفسي وتمكنا من قلبي وانتقلا معي إلى الجامعة بتطوان، حيث اخترتُ أن أتابع دراستي بشعبة اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمرتيل.. وأذكر، مرة، أن أحد أساتذتي بهذه الكلية العامرة، الذي كان يدرسنا في وحدة البحث والتكوين بالسلك الثالث “الأدب العربي بالمغرب في عهد العلويين”، توجه إليّ بنظرة لوم وعتاب حين علم أنني كنتُ ليلة أمس حاضرا في عرض مسرحي قدم بقاعة دار الثقافة بتطوان في إطار مهرجان مسرحي كبير أقيم بالمدينة… وهنا، وفي هذا المهرجان، التقيتُ بالكبير الأستاذ عبد الكريم برشيد مباشرة، حيث زرتُ الرجل ذات صباح بالفندق الذي يقيم به والذي كان يطل على جبل غرغيز الشامخ، فكنتُ أتخيل نفسي بين جبلين، ملتمسا منه إجراء حوار حول المهرجان وحول تجربته المسرحية.. والحق أنني وجدتُ في الرجل الكثير من النبل والتواضع والبساطة وحسن الإنصات، فازددتُ تعلقا به وبأعماله وإنتاجه، ولا أتوانى عن اقتناء الجديد منها والانكباب على قراءتها، ومتابعة المقالات والأعمدة الصحافية التي يحرّرها في بعض المنابر والحوارات التي يجريها معه بعض الصحافيين، سواء من داخل المغرب أو خارجه.. ستزداد علاقتي بالأستاذ رسوخا بعد أن دعاني أستاذي ومحل والدي الكاتب المسرحي الاحتفالي رضوان احدادو إلى حضور مناقشة أطروحة الطالب الباحث عبد الكريم برشيد برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمدينة الإسماعيلية (مكناس) تحت إشراف الناقد الجامعي د. عبد الرحمن بن زيدان، فتجمّعنا حول مائدة دسمة من الحوار والنقاش ذات صباح.. وقد استغرقت أطوار المناقشة الفترة الصباحية كلها، وشطرا من فترة بعد الزوال، كان الطالب الباحث برشيد يدافع فيها عن أفكاره… ثمّ تجدد اللقاء، مرة أخرى، في تطوان في ندوة علمية أثارت الكثير من النقاش والجدل حول المسرح المغربي بين المهنية والتنظير، وكانت لتلك الندوة أطوار وذيول… وهو ما لا يسع المجال لعرضه هنا والآن.. ثم التقينا في الدار البيضاء حين فكّر الأستاذ برشيد رفقة ثلة من المثقفين الممسوسين بحب البحث والإبداع في تأسيس هيأة (نقابة الأدباء والباحثين المغاربة) تجمع شمل الكثير ممن ضاق بهم سقف الاتحاد المعلوم؛ فتجدّد اللقاء، هنا منذ أزيد من ست سنوات، بإحدى مقاهي المدينة رفقة ثلة من الوجوه الطيبة..
نفس ثان: برشيد.. الدبلوماسي الذي لن يتقاعد يتحدّث الناس عندنا، طويلا ودون توقف، هذه الأيام وفي مختلف المحافل والمنتديات وعلى مواقع التواصل الاجتماعي وصفحات الجرائد والمجلات عن الدبلوماسيات الموازية: البرلمانية، النقابية، المدنية – الجمعوية، وهلم جرا… لكن ينسون أو يتناسون الفضائل التي يمكن أن تجنيها البلدان من بروز أحد أبنائها في مجال من المجالات الثقافية… وقد سمعتُ، قبل يومين، أحد الناشرين المغاربة يتحدّث إلى سيدة مكلفة بتسيير مكتبة هنا بالدار البيضاء عن أن ناشرا لبنانيا التمس منه أن يربط له الاتصال بإحدى دور النشر المغربية من أجل النظر في إمكانية إعادة طبع مؤلفات الكتّاب المغاربة؛ بالنظر إلى الطلب المتزايد عليها من قبل جمهور القراء والباحثين هناك. ومن ثم، يمكن القول إن الكتاب يبقى خير سفير… استطاعت الاحتفالية، التي دعا إليها الأستاذ عبد الكريم برشيد وثلة من رفاقه على درب الإبداع المسرحي المتأصل والأصيل، أن تخترق الحدود والحواجز وتسافر إلى عديد من الأقطار العربية وتجد لها عشاقا ومريدين وأتباعا يذودون عنها وعن مبادئها وقواعدها بكل حب وعشق وتفان. ولا أدل على هذه الوضعية من الفرق والمخرجين الذين اختاروا أن يشتغلوا بالنصوص المسرحية التي أبدعها الأستاذ عبد الكريم برشيد، سواء في الجزائر أو تونس أو مصر أو باقي بلدان الخليج العربي وغيرها من الأقطار… كما أن الإعلام العربي في بلدان المشرق العربي فتح أبوابه لنشر البيانات والكتابات التي يكتبها الأستاذ برشيد أو باقي أعضاء الجماعة الاحتفالية الآخرين.. وفي سياق الاحتفاء بالتيار الاحتفالي، فقد بادرت العديد من المؤسسات ودور النشر في المشرق العربية إلى نشر الكتب والأعمال التي يؤلفاها الاحتفاليون المغاربة والترويج لها واستضافة أصحابها في الندوات العلمية التي تعقد هناك بين الفنية والأخرى…
نفس ثالث: البوح ما أدراك ما البوح… “عبد الكريم برشيد وخطاب البوح حول المسرح الاحتفالي” هو عنوان الكتاب الحواري الذي يعدّ ثمرة تعاون علمي جاد وحوار متميز بين شيخ الاحتفاليين د. عبد الكريم برشيد وبين الأستاذ الباحث المسرحي عبد السلام لحيابي. يتضمن هذا الكتاب الغني والثري، والذي صدر عن شركة إديسوفت للنشر والتوزيع بالدار البيضاء سنة 2015 والذي يقع في 269 صفحة من الحجم المتوسط، ستة أنفاس حسب المصطلح الجاري بين أهل الجماعة الاحتفالية (فصول) جاءت وفق الآتي: النفس الأول: من يكون برشيد؟ (9- 39)؛ والنفس الثاني: عبد الكريم برشيد.. المختلف والمخالف (41- 72)؛ والنفس الثالث: الكتابة أولا.. الكتابة أخيرا (73- 115)؛ والنفس الرابع: المسرح الاحتفالي بين الفكر والفن والعلم (117- 205)؛ والنفس الخامس: الواقع والتاريخ والتراث في الاحتفالية (207- 248)؛ والنفس السادس: أسئلة وأجوبة سريعة للختام. لا شك في أن المتتبع للمسار العلمي والثقافي للدكتور عبد الكريم برشيد والمتأمل في لائحة الأعمال والمؤلفات النظرية والنقدية التي أنتجها الرجل (من قبيل: “الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي” و”الاحتفالية: مواقف ومواقف مضادّة” و”الاحتفالية في أفق التسعينات”…) سيثير السؤال الآتي: ما الإضافة / الإضافات التي يحقّقها الكتاب أو جاء بها؟ أو بتعبير آخر: هل كانت الحاجة تدعو، اليوم، إلى إخراج مثل هذا الكتاب؟ وللجواب عن هذا السؤال، سأحاول في السطور اللاحقة أن أتوقف عند بعض الجوانب التي أرى تمثل نقط قوة وإشعاع في الكتاب.
حين وقعت، منذ أسابيع معدودة (يعود تاريخ كتابة هذه الورقة إلى أواخر مارس 2015)، بين يدي نسخة فور خروجها من المطبعة؛ وضعت السؤال ذاته على نفسي: ترى ما الجديد في الآراء والمواقف التي سيأتي بها هذا الكتاب؟ وبعد أن أخذت النسخة وانكببت على قراءتها، تيقنتُ أن السي لحيابي استطاع أن يغوص بالأستاذ عبد الكريم برشيد في مواطن ومساحات ما زالت في حاجة ماسة إلى إبداء النظر والتأمل، إذ إن المتأمل لهذه الأنفاس الستة المذكورة أعلاه يجد أنه تندرج ضمن كل واحد منها جملة من المحاور المحددة، ويبلغ مجمل الأسئلة المضمنة فيها كلها 143 سؤالا. وإن مدار الحديث ومحوره في هذا الكتاب هو الاحتفالية، إذ لا يكاد يخلو نفس من هذه الأنفاس من حديث، سواء أكان مقتضبا أم مفصلا، عن الاحتفال والاحتفالية وما يرتبط بها من قضايا وإشكالات مثيرة للجدل؛ من قبيل: الممارسة المسرحية في المغرب، والنقد الأدبي، الانتماء والهوية، واللغة… ومن ثم، فإن هذا الكتاب يتسم، على غرار باقي الكتابات النقدية والنظرية التي ألفها وأخرجها برشيد، بالطابع النقدي والسجالي. وبناء عليه، فإن الباحث الأستاذ لحيابي كان أمام مهمة صعبة ومعقدة وهو يجالس الرجل من أجل إنجاز هذا الحوار؛ وذلك بالنظر إلى غنى التجربة المسرحية لهذا الرجل، الذي أثرى الخزانة المسرحية المغربية والعربية بكثير من الأعمال والمؤلفات سواء منها الإبداعية أو التنظيرية والتي أثارت الجدل وما زالت…
وبعبارة جامعة، يمكن القول إن القارئ يطالع عديد من أجوبة هذا الكتاب، الذي يأتي في أفق الاحتفاء بالذكرى الأربعين لميلاد الاحتفالية التي أطلق الإعلان / البيان الرسمي لها يوم 27 مارس 1979، ذلك النفس الجدلي الحجاجي القائم على عدم التسليم وترديد الكلام دون تمحيص. كما يطالع القارئ تأملات عميقة في عديد من القضايا والمشكلات المرتبطة ليس بالمسرح والاحتفالية فقط؛ بل بالحياة والوجود. كما يعرض فلسفة برشيد في الحياة والإبداع، عبر جغرافيات مختلفة: بركان/ وجدة/ فاس/ الخميسات/ الدار البيضاء.
وكنت آمل أن يرفق الكتاب التوثيقي بصور ووثائق عن تلك المحطات البارزة من مسار الأستاذ برشيد، من أجل مزيد من الاطلاع على هذه التجربة الغنية والمتفردة في المشهد المسرحي المغربي والعربي عموما. وفي ختام هذه الورقة، آمل أن يعكف الأستاذ برشيد على جمع الحوارات العديدة التي أجريت معه خلال مسيرته العلمية والمسرحية وأن ينشرها في كتاب مستقل؛ ليتسنى للباحثين والمهتمين الاطلاع على تلك الذخيرة الحية والإفادة منها. كل عام وأنتم في عيد واحتفال وابتهاج، والسلام.