ثقافة الصحراء
جريدة الشمال – (*) عزيزة عكيدة ( ثقافة الصحراء )
الخميس 03 مارس 2016 – 13:14:18
وسنحاول في هذه الورقة المجتّزة لفت الانتباه لهذا الموضوع، الذي كان ومازال مناط التقدير والمقاربات المتمايزة علمية بالنظر إلى اختلاف الموجهات النظرية المتباينة التي تعالجها من حيث طبيعة الخلفيات/الايدلوجيات، والمرجعيات السياسية والثقافية والدينية التي تُؤطر النّظَر إليها وتوجهه.
ولمّا كان هذا يمثِّلُ جانباً من “التعقيد” الذي يعترض الباحث إزاء تناول هذتين القضيتين/المسألتين، فإنه وجب التنصيص إلى أن مقاربتنا لهما لن نجاري فيه تلك “المُعالجات” المألوفة، بقدر ما سننظر إليهما من منطلق وجهة نظر مخالفة، تأخذ بالبعد التكاملي في مقاربة الموضوع بعيداً عن اعتلالات التقزيم والاختزال والانغلاق، وذلك اعتباراً لكوننا نَرى أن الهوية والثقافة –في نظرنا الخاص- هما نسق رمزي صوري متكاثف ومعقد، متداخل ومترابط، مندمج ومتنافر، خصوصي وعام، مؤتلف ومختلف، يتعدى فعله في السلوك وأساليب التفكير وأشكال التعبير ووجوه الثقافة المختلفة إلخ…
ولذلك، كانت الهوية والثقافة –بالنسبة لنا- في المجتمع الصحراوي، نسقا مشتركا بين عشائره، مؤصلا حضاريّاً عبر فاعلية الزمان/القرون، والمكان/المجال وسياقاتهما المتباينة أثرا وتأثيرا، فهما صنيعا تراث طويل من المثاقفة والمصاهرة بين العناصر والإثنيات التي استوطنت هذا المجالالمترامي الأطراف، وتفاعلت فيه.
ومن ثمة فهما يُنبئان عن فعل تعايشي محترم وأصيل، يؤمن ضمانات استيعاب الأخر الهوياتي (الألسني أي اللغوي والعرقي والمذهبي والديني) دون تعسف أو حيف في “هوية” مشتركة وثقافة منفتحة ذات روافد وابعاد مختلفة مندمجة ومنصهرة في المجال، ومتقاسمة بين كل فئاته ومكونات وحداته.
وعلى هذا الأساس، كانت هوية المجتمع الصحراوي حضارية في عمقها، ثقافية في تمظهراتهاوسلوكاتها، ممتدة في فضاء –لا حيّز- جغرافي منبسط، يشغلمن وادنون شمالا إلى نهر السينغال جنوبا، ومن المحيط الأطلسي غربا إلى مالي شرقا.
فمنذ الفتوحات الإسلامية المبكرة والانتشار العربي، أخدت الأطراف الجنوبية من البلاد تستوعب في دائرة معارفها الهوياتية الصنهاجية الأفريقية، الرافد العربي المشرقي الجديد، الذي ما لبث أن خَطَى في اتجاه تقويم شخصية الإنسان الصنهاجي الصحراوي وربطه بالعروبة والإسلام (الهوية العربية الإسلامية)، وهو الانفتاح الذي ما كاد ايضا يشرع أبوابه ويمد جسور تواصله بتلك الجهات المركزية حتى استنبتت فعلا مرُابطيا دعويا أبلى بلاء حسنا في الدفاع عن مقومات تلك العروبة وشريعته الدينية (الاسلام)، بشكل كان له الأثر البالغ في المنطقة واطرافها الجنوبية (الزنجية الإفريقية)والشمالية (السوسية الشمالية).
وبعد انصرام عهد من الزمن وفي الفترة الوسيطية وتحديدا من القرن الرابع (4) الهجري وحتى القرن الثامن (8) الهجري،التي كان السَّقف المرابطيبذهنيتهآخِادًا فيها بالهوية المتناغمة بأبعادها الحضارية، الإفريقية، الصنهاجية، العربية، الإسلامية. اجتاحت المجال موجات عربية حجازية جديدة تحمل رافدا مَضَرِيَّ الخصوصية، معقلي الأصول، مَتَصَعْلِكَ النُّزوع، تَوَّاق للفيافي والشعاب، وفعلَ الغارة، فعملت على مد تلك الهوية بالرافد الحساني المعقلي، وأعاد صياغتها وبلورتها في بناء اجتماعي يتخذ السُّلَّمِيَّةَ الهرميَّةالثُّلاثيَّة، القائمة على أساس وظيفي لا سلالي عرقي في التوزيع والتراتبية والمهام، وهي على التوالي:
وحدة أو فئة حسان، وحدة أو فئة الزوايا، وحدة أو فئة اللحمة.
حيث ضَمَّت الوحدة الأولى حَسَّان وكل الفئات التي تمتهن وتمتشق السلاح والغزو والغارة، وقد سميت بـ “أهل الشوكة”، وقد أنتجت ثقافة شعبية عامية، تمثلها الثقافة الحسانية بشعرها “لغن” وأدبها ورقصها وعاداتها المختلفة، وهي التي أصبحت –الآن- تختزل فيها الثقافة والمجتمع والهوية بشكل فلكلوري عار من تابت البعد الهواتي الأصيل وثقافته العالمة.
فيما شملت الوحدة الثانية الزوايا كل الفئات التي تضطلع بمهمة نشر العلوم، واللغة العربية وآدابها المعيارية (اللغة الفصيحة)، فسميت بـ “سدنة العلم”، وقد أسهمت بشكل كبير في شيوع “المحاضر”، ونشاط المدارس والتدريس بالمنطقة، فأنتجت بذلك ثقافة عالمة، مخطوطة متفردة، لازالت الأنظار محجوبة عنها، والاهتمامات منصرفة للتعريف بها وبحجم النهضة الثقافية العامة التي خلقتها بالصحراء سواء من حيث الإنتاجية والتأليف، أو من حيث الابداع الشعر العربي الفصيح وغيره.
في حين كانت الوحدة الأخيرة الثالثة اللحمة، تضم كل الفئات الغارمة، والتابعة والمنتجة إن شئنا الإنصاف، والتي تتولى تدبير بعض النشاطات الموازية والوظيفية التي تحتاجها باقي الفئتين كالرعي والزراعة والسخرة والترفيه الفني والموسيقي الخ…
هذه الوحدات بوظائفها الخاصة وأدوارها المتخصصة، تصاقبت في مجتمع متماسك ومنتظم ومتدرج تراتبيا، أخذ بالهوية البيضانية في سقفها النسقي العام الذي تتعايش فيه كل الألوان والأعراف والأجناس والألسن المختلفة، والناظر في ثقافته الشعبية من جهة والعالمة من جهة يتلمس بوضوح ذلك الغنى والتعددية المائزة تركيبا.
ويبقى اللسان الحساني “اللهجة” خير دليل على ذلك التمظهر الذي يستقي في مداخله المعجمية ومستوياته التركيبية والصوتية والاصطلاحية من مجموع رواسب تلك العشائر، وخصوصياتها اللهجية الخاصة، الأمازيغية، الصنهاجية، الزنجية، والعربية، وقد مد هذه الهوية رافد أخر كان ينتح أصوله من الثقافة العربية الصوفية اعتبارا أن أهل المنطقة في ثقافتهم الدينية مسلمين، سنين، مالكيين، أشعريين..
(*)باحثة في التـُراث الحَسّـاني