اصطفاء الإخوان الأتقياء
جريدة الشمال – محمد كنــون الحسني (اصطفاء الإخوان)
الجمعة 29 دجنبر 2017 – 16:47:00
ولنتأمل قول مولانا جل علاه: ” وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ” حيث جعل سبحانه الميل إلى الظالم والركون إلى المجرم سببا في العذاب بالنار، فكم رأينا قرناء السوء وأعوان الشر يصحبون الناشئين في الطهر الراغبين في الخير المتأدين بآداب الدين فينحرفون بهم عن جادة الفضيلة ويمهدون لهم سبيل الشر ويزينون لهم سوء الأعمال، وتأمل أيضا قوله تعالى: ” وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ “، فعشرة المرء لآخر نوع من قرب نفسيهما وصلة بين روحيهما، وشاهد ذلك ما أخرجه البخاري تعليقا عن عائشة وأحمد ومسلم وأبو داوود عن أبي هريرة والطبراني عن ابن مسعود مرفوعا: ” الأرواح جنود مجندة”، أي جموع مجتمعة، “فما تعارف منها”، أي توافق في الصفات وتناسب في الأخلاق “ائتلف وما تناكر منها”، أي لم يتوافق ولم يتناسب، “اختلف”، فالصالح يألف الصالحين ويميل إلى مجالسهم لان روحه من روحهم وطبعه من طبعهم والشيء من معدنه لا يستغرب، والفاسق يهوي الفاسقين ويميل إلى مجالسهم ولا يقوى على تركهم، فروحه أشربت الفسق والفجور وامتزجت الشهوات الشريرة بلحمه ودمه، وأصبح داؤه عضالا ودواؤه عسيرا وبقدر العشرة وكثرة الاختلاط تكون نسبة التأثير، فالرشيد الفطن من يختار لنفسه صحبة آهل الصلاح والاستقامة، فقديما قيل: “اختر الرفيق قبل الطريق والجار قبل الدار”، ولقد بلغ من تأثير المخالطة في النفوس وامتزاجها بمن تعاشره أن العقلاء إذا أرادوا معرفة سلوك شخص من الناس سألوا عن صديقه فان كان مستقيم الحال طيب الأخلاق طاهر السريرة حكموا بوصفه بكل تلك السجايا الجميلة والخصال المجيدة، وان كان الصديق خليعا فاجرا كان الصديق الأخر كذلك لذا قيل:
عن المرء لا تسال وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
ولقد ضرب صلى الله عليه وسلم لذلك مثلا أغنانا عن كل قول وكل بيان، أخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري مرفوعا: “مثل الجليس الصالح والجليس السوء كصاحب المسك وكير الحداد لا يعدمك من صاحب المسك إما أن يعطيك وإما أن تشتري منه وإما أن تجد ريحا طيبة، وكير الحداد إما أن يحرق ثيابك وإما أن تنالك ريحا خبيثة”، فمعاشرتك للصالح تكسبك نفعا في دينك بتعليمك ما لم تكن تعلم والسلوك بك إلى الطريق الأقوم ويرشدك إلى ما يحسن زراعتك أو يروج تجارتك، وقد بين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن جلوسك وصحبتك للرجل الصالح كجلوسك مع بائع الروائح العطرية فهو إما أن يعطيك بدون ثمن، أو تشتري منه ما ينفعك بقليل من دراهمك، فان لم يكن هذا ولا ذاك استفدت رائحة زكية مادمت في صحبته، وأما اختلاطك بسيئ الأخلاق وبذي اللسان فانه يجر عليك وبالا وشرا كجلوسك في محل حداد، فان قربت من مكان النار احترقت ثيابك وان اتخذت مكانا قصيا شممت رائحة خبيثة، فمعاشرة الأشرار شر في الدنيا وعذاب في الآخرة ومجانبة قرناء السوء مفتاح كل خير، ففي حديث البخاري والنسائي مرفوعا: “فمن وقي شرها – أي بطانة السوء- فقد وقي”، وفي حديث آخر إذا أراد الله بعبده شرا ساق إليه جليس سوء ينهاه عن الأخذ بالموعظة”، وقال عليه السلام:” الجليس الصالح باب من أبواب التوفيق والجليس السوء باب من أبواب الفتنة”، وقال:”لا يصلح المرء حتى يصلح جليسه”، وقال:” أربع من سعادة المومن أن تكون زوجته صالحة وأولاده أبرارا وخلطاؤه صالحين وان يكون رزقه في بلده وقال إياك وقرين السوء فانك به تعرف”
إذا صاحب الإنسان أخيار قومه واعرض عن أشرارهم فهو صالح
وان قارب الإنسان أشرار قومه واعرض عن أخيارهم فهو طالح
وكــل امــرئ ينبيك عـنه قـرينـه وذلك أمر في البرية واضح
واخرج أبو داوود و الترمذي وحسنه مرفوعا :”المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل”، وعن منصور بن عمار قال:” قد تغير الزمان حتى كل في وصفه اللسان، ما بقى من العلم إلا اسمه ولا من الدين إلا رسمه، لا تواضع في هذا الزمان إلا لمخادعة ولا زهد إلا لحيلة ولا أمرا بالمعروف أو نهيا عن المنكر إلا لحمية النفس، والناس ذياب في ثياب، إن رفضتهم حرموك وان نصحتهم غشوك وان كنت شريفا حسدوك أو ضعيفا حقروك أو عالما جهلوك أو جاهلا لم يرشدوك، فان نطقت قالوا مهدار وان سكت قالوا بليد مدرار، فمعاشرتهم داء والفرار منهم دواء
إن كنت منبسطا سموك مسخرة أو كنت منقبضا قالوا به ثقل
وان تواصلهم قالوا به طمـــــــع وإن تفاصـــــلهم قالوا به ملل
وان تعففت عن أموالهم شرفـــا قالوا غني وان تسألهم بخلوا
فالمومن الذي يخشى ربه ويخاف على دينه يبتعد عن أهل الفسق والفجور فلا يختلط بهم ولا يشترك معهم في أي عمل من الأعمال ويحث غيره على ذلك، إن الدين النصيحة، كما يجب عليه أن ينشئ أولاده على الفضيلة ويحبب إليهم صحبة الصالحين من أبناء قومهم فمن شب على شيء شاب عليه، ولقد قال الله تعالى فيما يقوله الخليل لخليله الذي أغواه وأبعده عن طريق النور والهداية:” وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ۗ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا “، ويقول سبحانه إرشاد للمومنين وأمرا لهم بهجر مجالس الفاسقين ” وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ “، ويقول سبحانه:” الْأخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ” أي أن الخلة أي المصاحبة والمعاشرة في الدنيا إذا كانت على غير توحيد الله وطاعته فإنها مضرة مهلكة منقطعة، أما المتحابين في الله المجتمعين على طاعته فإنها الخلة الباقية.
إن الزمان اليوم شديد شيطانه مريد و جباره عنيد، قد قويت فيه شوكة الكبر والنفاق وعظمت سورة الرياء ومساوئ الأخلاق، وتخلق كثير من الناس بالأخلاق الذميمة وأظهروا التجاهر بالتحاسد والغيبة والنميمة، وأمرضوا القلوب بالنفاق وصاروا عن الآخرة معرضين، وأطلقوا ألسن الكذب والنفاق، وفي مضمار السباق مع الغافلين أتوا لما يرديهم لا بما يجديهم نفعا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، لعمرك أنهم لفي سكرتهم يعمهون وما الله بغافل عما يعملون وقد انعدمت الصداقة ودرس الإخاء وانطمست معالمهما وأصبحنا ننكرهما جريا وراء قول الشاعر:
لما رأيت بني الزمان وما بهم خل وفي للشدائد اصطفى
أيقنت أن المستحيل ثلاثــــــة الغول والعنقاء والخل الوفي
فإياك أن تحسين الظن بإنسان إلا بعد التجربة والامتحان، ولا تثق بسماع أخباره إلا بعد إحكام نقده واختباره عليه من تقلبات الأحوال، فان حسن الظن بالناس كان محمود العواقب حيث الإخلاص في السلف الصالح الأكثر الغالب إذ الناس ناس والزمان زمان،
فأكثر من تلقى يسرك قوله ولكن قليل من يسرك فعله
فإياك و الوثوق بمطلق الناس فإنهم ذئاب مستورة بغش اللباس، فعن ابن عباس قال: ذهب الناس وبقى النسناس، قيل وما النسناس؟ قال الذين يتشبهون بالناس وليسوا بالناس، وقال أبو الدرداء:” كان الناس ورقا لا شوك فيه فصاروا شوكا لا ورق فيه”، وعن أبي إمامة مرفوعا: “إن الناس اليوم كشجرة ذات جنى ويوشك الناس أن يعودوا كشجرة ذات شوك، إن ناقدتهم ناقدوك وان تركتهم لم يتركوك وان هربت منهم طلبوك، قيل فكيف المخرج من ذلك؟ قال تقرضهم من عرضك ليوم فقرك”، هذا وقد قال علقمة بن لبيد يوصي ولده يا بني:”إن احتجت إلى صحبة الرجال فاصحب من إن صحبته زانك، وان أصابتك خصاصة أعانك وان قلت حقا سدد قولك، وإن صلت قوي صولتك، وان بدت منك ثلمة سدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وان سألته أعطاك وإن نزلت بك إحدى المهمات واساك، من لا تأتيك منه البوائق ولا تختلف عليك منه الطراف”..
فطلب الصديق على حد ما وصف لك أمر متعين لتشكو إليه حزنك وتنتصر به على من ظلمك، فإن خلا الصديق مما ذكر فلا خير في عشرته ولا راحة في صحبته بل يجب الصد عنه والبعد منه، فإن عشرته لا تفيد إلا التعب و المشقة و النصب، خصوصا في زمان قل فيه الخير وطم الأمر وصار القابض على دينه كالقابض على الجمر، فهيهات ثم هيهات أن تجد صديقا فيه ما تقدم من الصفات فان هذا أقل من القليل بل صار من قسم المستحيل، وسئل بعضهم ما الصديق؟ فقال: إسم على غير مسمى وحيوان غير موجود لكن لا ينبغي للعاقل اليأس من جميع أهل زمانه، بل يجب عليه أن يتفقد الأخيار وإن قلوا مع إقباله على شأنه، فالعبرة بتجريب الأريب لأنه يمير الخبيث من الطيب والعدو من الحبيب، لا تحسب الناس شكلا واحدا أبدا فربما قام إنسان مقام فئة، فالدال والذال في التصوير واحدة الدال أربعة والذال سبعمائة فصاحب واحد يحصل به المراد خير من ألف تكثير الأعداد، وأخرج الحاكم وصححه مرفوعا: “الوحدة خير من جليس السوء والجليس الصالح خير من الوحدة وإملاء الخير خير من السكوت والسكوت خير من إملاء الشر”…