ينتابني إحساس بأن الثقافة في المغرب لا تزال تحت حماية ما 1/3
جريدة الشمال – حاوره: عبد الله بديع (الأديب د. عبد النور )
الخميس 19 أكتوبر 2017 – 18:29:42
•كثيرة هي الأسماء الذي دخلت ميدان الأدب ورحابه الفسيحة آتية من ميادين بعيدة عن الميدان سالف الذكر: الطب، المحاماة، الهندسة… وفي ميدان الطب تحديدا، أذكر أن الكثير من الأطباء عانقوا القلم، واستطاعوا أن يبصموا على حضور لافت ومميز في المشهد الأدبي والثقافي عامة من خلال أعمال مميزة وخالدة؛ نذكر من هؤلاء الأطباء على المستوى العربي: يوسف إدريس، ونجيب الكيلاني، وعبد السلام العجيلي،… وعلى المستوى الوطني (المغرب) فاتحة مرشيد وعبد القادر وساط (أبو سلمى) وعبد النور مزين..
وفي هذا الحوار الأدبي، نستضيف الأديب الطبيب الدكتور عبد النور مزين، الذي يجمع بين كتابة الشعر والقصة القصيرة والرواية أيضا؛ من أجل أن نتناول الحديث معه عن جملة من القضايا والأسئلة المرتبطة بتجربته الأدبية.!..
لا أذيع سرا إذا قلت إن البدايات الأولى للجسور التي امتدت إلى ساحات ومروج الأدب الفسيحة تعود إلى أيام الدراسة بالمرحلتين الإعدادية والثانوية وبعدهما الجامعية بكلية الطب والصيدلة بالرباط؛ ففي تلك المراحل كانت المحاولات الأولى للكتابة، وأيضا كان الانجذاب القوي نحو القراءة، خاصة ما يتصل بالشعر والسرديات عربية كانت أم فرنسية… ولاحقا، أدركت أن الكتابة كانت قد غدت مكونا أساسيا أيضا من مكوناتي الشخصية، بالموازاة مع مجهود التحصيل العلمي في ميدان الطب؛ فكان أن قرّرتُ القيام بتكوين ذاتي في ميدان اللغة، باعتبارها وسيلة ذات أهمية قصوى في الكتابة، بالإضافة إلى الاطلاع على ماهية ومميزات الأجناس الأدبية المختلفة. وقد تمكنتُ من القيام بهذه العملية بالموازاة مع الدراسات الأكاديمية والمهنية لاحقا.
كيف تلقى الزملاء الأطباء في الوسط المهني هذا الشغب الإبداعي؟
في الحقيقة، لم أكن كثير الإفصاح عن هذا الميول الشخصي إلى الكتابة في وسطي المهني، الذي كانت تطغى عليه أنشطتي السياسية والنقابية والجمعوية بالخصوص؛ لكن القلة القليلة من دائرة الأصدقاء، الذين كانوا على اطلاع نوعا ما بتلك الأنشطة الأدبية، لم تكن تأخذها على محمل من الجد. لهذا، عندما افتضح أمري وشاعت في العموم أخبار القائمة الطويلة لجائزة البوكر للرواية العربية لسنة 2016 التي وصلتها روايتي الأولى “رسائل زمن العاصفة”.
كل الزملاء والمعارف في الوسط المهني تفـاجـؤوا نـوعــًا ما وتساءلوا : أين كنت أخفي هذه الموهبة الأخرى بعيدا عن عالم الطب والألم، وبعيدا عن عالم السياسة والنقابة والأنشطة الجمعوية؟
ما طبيعة القضايا والأسئلة التي يثيرها معك زملاؤك الأطباء، في الأحاديث التي تجمعك بهم حول هذا الجانب الأدبي؟
في غالب الأحيان، تدور الأحاديث عن هذه الإمكانية في الإبداع في ميدان الرواية والقصة؛ وهما نوعا ما بعيدان عن الاهتمامات اليومية لغالبية الزملاء الأطباء والطبيبات.. والحق أنني أحس دائما بذلك الاستحسان والتشجيع، وكذلك الفخر أيضا بذلك الانتماء أن يبدع فرد من عائلة الأطباء في ميدان بعيد نوعا ما عن انشغالاتنا المهنية اليومية. كما أكتشف أيضا أن الكثير من الزملاء كانت لهم أيضا، في مراحل معينة من حياتهم، أنشطة من هذا القبيل: ككتابة الخواطر الشعرية أو السردية.
نشرت، في بداية حياتك الأدبية، إنتاجك الإبداعي باسم مستعار (علي غالي).. فما المبررات الذاتية والموضوعية التي تقف وراء هذه الخطوة؟ وما مصير تلك الكتابات التي وقّعتَها بهذا الاسم المستعار؟
كما قلت في السابق، فإن ارتباطي بالميدان الأدبي يعود إلى سنوات الدراسة بالمرحلتين الإعدادية والثانوية؛ لكن التفكير جديا في النشر والتوجه إلى عالم الأدب ككاتب لم يتبلور إلا أواسط المرحلة التي كنت أتابع خلالها الدراسة الجامعية بالرباط بكلية الطب والصيدلة، فكانت تلك المرحلة الأولى للتفكير في النشر وكيفية إدارة كل ذلك النشاط. وكان أن اطلعت، وأنا أتابع عالم الكتابة قراءة واطلاعا وعلى النقد أيضا، لكتّاب وكاتبات كتبوا بأسماء مستعارة؛ فاستهوتني الفكرة ربما لأنها تضمن قدرا معينا مؤقتا من عدم افتضاح أمر الكتابة أمام العموم، وخاصة أنني في البداية ربما كان ينتابني قدر لا بأس به من الشك أيضا في جودة ما أكتب وحتى في مآلات هذه المغامرة التي كنتُ مقدما عليها، أي مغامرة الكتابة؛ لكنني سرعان ما عدلت عن الفكرة، عندما تراكمت النصوص، خاصة في الشعر والقصة. وهنا، أذكر أنني لم أنشر إلا نصا واحدا باسم مستعار علي غالي وهي القصة القصيرة (عندما تزهر شجرة اللوز)، والتي أعدت نشرها لاحقا باسمي الحقيقي في موقع إلكتروني فلسطيني في سنة 2005 على ما أظن، والتي ستصدر قريبا ضمن المجموعة القصصية الثانية.
تجمع في ممارستك الأدبية بين كتابة الشعر والقصة القصيرة والرواية.. فأيّ جنس من الأجناس المذكورة أقرب إلى نفسك؟ أو بتعبير آخر: أين يجد مزين ذاته ومتعته من ضمن هذه الأجناس سالفة الذكر؟
أدركت، مؤخرا، أن الكتابة عندي هي في الأساس نوع من الحكي؛ فالحكاية مكون أساسي في عملية الكتابة والابداع لديّ. ومن ثمّ، أجدني حتى وأنا تحت قبضة القصيدة لا أنفك أمعن في البوح بذلك المحكي الذي يستثير الخيال. هكذا، أكون قد ألقيت رحالي في عالم الحكاية سردا وشعرا، ووجدتني حتى وأنا أوغل في القص أو في سبر أغوار الحكايات المتناسلة داخل النص الروائي غير منفصل عن تلك الموسيقى وذلك الإيقاع الكامنين في مسام اللغة. لذلك، يكون الشعري حاضرا في صلب الحكاية. هكذا، بدت الحدود الوهمية التي رسمها المشتغلون على النصوص لاعتبارات عملياتية وكأنها تتداخل وتتماهى فيما بينها، لتصير جغرافية واحدة لوطن الحكاية واللغة.
نشرت مجموعة قصصية وديوانا شعريا، قبل أن يرى النور عملك الروائي البكر “رسائل زمن العاصفة”؛ غير أن العملين الأولين لم يحظيا بالمتابعة الكافية والاهتمام المطلوب، كما أن شهرتك في المشهد الأدبي بالمغرب لم تتحقق إلا بعد صدور روايتك البكر سالفة الذكر. فما تفسيرك / تعليقك على الظاهرة المفارقة؟
ينتابني، أحيانا، ذلك الإحساس بأن الثقافة في المغرب لا تزال تحت حماية ما، ولم تستقل بعد أو لم تفعل ذلك إلا شكليا. لذلك، لم تنفذ بعد إلى عمق المسألة، سواء كمؤسسات رسمية أو دوائر الصداقات التي تشتغل في ضيعات الثقافة المختلفة. لذلك، ليس غريبا أن تغيب تلك الآليات التي ترصد جودة الكتابة داخل جغرافية الحكاية واللغة التي تنمو خارج تلك المحميات. فكان لا بد أن تسلط الأضواء على تلك المناطق من أحراش الكتابة من لدن مستكشفين في الشرق والغرب من خارج ضيعات الكتابة بالوطن، كي تأخذ الدوائر علما بمنافع بعض الكتابة التي تنمو في الأحراش.
هكذا، كانت حكاية “رسائل زمن العاصفة” مع ضيعات الكتابة بالوطن. لم تتخط بعد سياج الأسلاك الشائكة لكل تلك الضيعات المحروسة وهي التي قدمت بتأشيرة دولية فما بلك بنصوص لا تأشيرة لها ولا حتى جواز سفر.
هكذا، تكون الكتابة رهانا صعبا وأصعب منه رهان المتابعة، بما يعنيه من تجاوز ضروري لجغرافية الضيعات ودوائر الصداقات؛ لأن الأحراش وحدها ستبقى المشتل الوحيد الذي لا ينضب لحدائق الكتابة في المستقبل.
هل يعني كلامك أن تأخر تحقيق الإشعاع في الساحة الأدبية خلق نوعا من الضيق داخل نفسك؟
لا أظن ذلك، لأن الأصل في الكتابة عندي هو من أجل إشباع رغبة ذاتية وهي متعة الكتابة، وكل الباقي تجليات وآثار جانبية حميدة، خاصة أن الكتابة التي لم تستخلص من تجارب حياتية عيشا أو متابعة لا تستطيع أن تصل إلى العمق المطلوب في النص الإبداعي. بهذا المعنى، يكون الإشعاع مرادفا للتواصل عبر الكتابة على نطاق أوسع؛ وهو رهين، أولا وأخيرا، بجودة المنتوج في الكتابة وليس بالضرورة بسنوات التراكم. ربما إذا كنتُ قد كتبتُ “رسائل زمن العاصفة” قبل عشرين عاما لا أظنني كنتُ قادرا على كتابتها بالشكل الذي كتبتْ به الآن.
عقدت، خلال سنة واحدة (2016)، لقاءات متعددة (أزيد من 10 لقاءات) حول رواية “رسائل زمن العاصفة” شملت مختلف ربوع المغرب (طنجة، تطوان، العرائش، القصر الكبير، الدار البيضاء…).. كيف تقيّم تجارب القراء مع هذا النص انطلاقا من تلك اللقاءات؟
اللقاءات مع القراء بالنسبة إلى الكاتب تجربة فريدة بكل المعنى للكلمة؛ لأن القارئ، في نهاية المطاف، هو المكمل للحكاية الحقيقية كي يكون النص مكتملا. هكذا، يكون اللقاء مجالا من أجل محاولة الفهم المشترك لذلك الذي جرى بين السطور.. وفي هذا لعمري قدر مهم جدا من التفاعل الحسي حول مفاهيم حياتية، باعتبار النص الروائي هو حياة متجاورة ومتقاطعة مع حياتنا. لهذا، لم تكن تلك اللقاءات إلا لتغمرني بالسعادة وأنا أرى كل ذلك الاحتضان لغادة الغرناط من لدن القراء والتعاطف معها والاستعداد للتعرف عليها بالنسبة إلى الذين لم يتسن لهم ذلك.
في لقاء احتفائي برواية “رسائل زمن العاصفة”، طلب منك أحد الحضور قراءة مقاطع من الرواية، فتفضّلت بالاستجابة لقراءة مقاطع شعرية من الرواية إلى جانب الرسالة الأولى من الرسائل الواردة في الرواية؛ غير أن الجمهور يسجل تفاعلا خاصا من لدنك مع النص، إلى درجة الانخراط في البكاء في إحدى اللحظات.. فما الإحساس الذي تداعى، حينها خلال تلك اللحظة، إلى ذهنك؟
لا يخفى عليك أن النص الروائي لا يكتمل إلا بتلك الجرعة الحسية الأخيرة التي يضيفها القارئ وهو يتفاعل معه. ومن ثمّ، فإن المتلقي يكتب بذلك التفاعل الحسي شكلا نهائيا لنسخته الخاصة به من النص. وغريب كيف أن هذه الشحنة الحسية أو اللمسة السحرية للقارئ، كما أسميها، هي التي تحدد عمق النص الإنساني. لهذا، كنت وأنا أقرأ تلك المقاطع تحت تأثيرات متنوعة أذكر منها ثلاثة أنواع على الأقل؛ أولها مهابة الحضور، فقد كانت القاعة غاصة بالجمهور حد الاكتظاظ مع حميمية خاصة بالمكان. وثانيها التفاعل الدائم للكاتب مع النص المنتهي كقارئ بكل المعاني التي تتيحها الكلمة بمعنى إضافة تلك اللمسة أو الشحنة الحسية التي تكمل العمل الروائي. وثالثها، ربما وأهمها، تلك الإحالات الشخصية التي تخلقها الكتابة بارتباطها بالمعيش الحياتي الشخصي، سواء للقارئ أو للكاتب نفسه. ولعل تضافر هذا الكل أعطى لتلك اللحظات التواصلية ذلك المعنى الخاص بروح اللحظة.