“الأساليب التكتيكية العسكرية عبر تاريخ الحروب المغربية”
الجمعة 28 أكتوبر 2016 – 11:36:12
…ثمَّة تعزز مجال البحث التاريخي الوطني المعاصر بصدور عمل تركيبي متميز حول تطور النظم الحربية المغربية خلال العصرين الوسيط والحديث، وذلك تحت عنوان “الأساليب التكتيكية العسكرية عبر تاريخ الحروب المغربية – من عهد الأدارسة إلى عهد العلويين قبل الحماية”، للكولونيل أحمد البسيري، وذلك مطلع السنة الجارية (2016)، في ما مجموعه 329 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويمكن القول إن هذا العمل يقدم إضافات هامة لمجال تاريخي لم ينل نصيبه الكافي من الاهتمام ومن التوثيق ومن التنقيب لدى مؤرخي مغرب الزمن الراهن. فباستثناء الأعمال التنقيبية أو الأطروحات الجامعية التي اشتغل عليها بعض مؤرخي المرحلة الراهنة من أمثال محمد المنوني وعبد الحق المريني وثريا برادة ومصطفى الشابي، نكاد لا نجد إلا شذرات من المعطيات الموزعة بين متون التصانيف الكلاسيكية والدراسات القطاعية والمونوغرافيات المجهرية التي لم تهتم بقضايا الأساليب التكتيكية العسكرية إلا في سياق قضايا عامة موجهة. بمعنى أن الموضوع ظل يتيه بين ثنايا قضايا مركزية في تاريخ المغرب كانت تثير انتباه المؤرخ أكثر من سواها، وفق نظرة تبخيسية لم تستطع استيعاب عمق الموضوع ودوره في تفسير التغيرات الحضارية لمغرب الأمس، سواء في إطار تناقضات بناه الداخلية العتيقة، أم في إطار مستلزمات مدافعة الهجمة الأوربية التي اكتسحت عالم ما وراء البحار، على الأقل منذ مطلع القرن 15م، مع انبثاق حركة الاكتشافات الجغرافية الكبرى وارتداداتها الميركنتيلية على أرجاء واسعة من القارات الإفريقية والأسيوية والأمريكية.
وإذا كان مجرد صدور هذا العمل التركيبي الهام، بعمقه العلمي المحكم، يشكل إضافة نوعية لحقل الدراسات التاريخية المتخصصة، فإن مؤلفه يظل أحد أكبر العارفين بخبايا الموضوع وبتعقيداته المتداخلة. فالكولونيل أحمد البسيري يشكل نقطة ضوء استثنائية لرجل جمع بين مهامه المهنية داخل المؤسسة العسكرية وبين تكريس الكثير من الوقت ومن الجهد للبحث وللتنقيب في قضايا التاريخ العسكري المغربي، بشكل أصبح معه مرجعا للباحثين ورائد ميدانه بدون منازع، الأمر الذي حمل تعبيرات قوية عنه في رصيد منجزه الفكري والعلمي الغزير والممتد في الزمن. وأكتفي، في هذا الباب، بالإشارة إلى إحرازه لجائزتين اثنتين في المسابقة الأدبية التي كانت تشرف عليها مديرية التشريفات الملكية بمناسبة عيد العرش، الأولى سنة 1959 في موضوع التاريخ الحربي للمغرب، والثانية سنة 1960 في موضوع العلاقات الديبلوماسية المغربية في عهد الدولة العلوية. وفي مجال النشر، صدرت لأحمد البسيري الكثير من المقالات ومن الدراسات التاريخية المتخصصة، أهمها كتابه “مصادر من التراث العسكري المخطوط بالمغرب”، وذلك سنة 2014، كما عرف هذا الباحث الفذ بغزارة مشاركاته الأكاديمية في العديد من الندوات والمنتديات العلمية ذات الصلة بمجال تخصصه، داخل المغرب وخارجه. وبهذا التراكم العلمي الرفيع، تحول الكولونيل البسيري إلى أحد أكبر العارفين بخبايا التاريخ العسكري المغربي، على مستوى نظمه وآلياته وخصوصياته المكتسبة عبر تعاقب الأزمنة والعصور.
لكل ذلك، أمكن القول إن صدور الكتاب موضوع هذا التقديم ما هو إلا تتويج لمسيرة طويلة من البحث ومن التنقيب، خاصة وأن العمل تحرر من الطابع التقريري المرتبط بالاستنطاق التقني للسجلات المخزنية ذات الصلة، وانتقل إلى التركيز على تفكيك بنية اشتغال المؤسسة العسكرية المغربية من خلال تطور الأساليب التكتيكية المعتمدة، الأمر الذي لا نعرف عنه إلا النزر القليل داخل رصيد الإسطوغرافيات الكلاسيكية. ولقد أبرز المؤلف القيمة العلمية الكبرى للبحث في هذا الجانب، عندما قال في كلمته التصديرية: “إن استقراء مضامين التكتيك العسكري المغربي على مر العصور، يفيد الباحث والمتتبع، في آن واحد، الإقرار بوجود إرث تاريخي عميق في هذا الباب. وهو الإرث الذي تبلور وتطور وفق تطور آليات الصراع الحربي، وتقدم تقنياته، فلم يقتصر الأمر على مجرد استكناه وتكرار منظومات تكتيكية عرفتها شعوب مجاورة للضفة المتوسطية والمحيط الأطلنتي، بل عمل المغاربة على بلورة فكر ونموذج خاص، منبعث من بنية فكرية متكاملة العناصر، تنهل أسسها العسكرية من خلاصات التجارب الكونية الممزوجة بواقع المعارك والحروب على اختلاف ظرفياتها وبيئاتها، بل آنيتها في بعض الأحيان”.
وللتأصيل لشروط بلورة هذه الرؤية في البحث وفي التنقيب، سعى المؤلف إلى التعريف بمقاصد الأعمال التكتيكية وبنظم عملها المتداخلة، إلى جانب التعريف بالمفاهيم الأساسية المهيكلة للموضوع. وللبحث في التطبيقات العملية لهذه القضايا النظرية، اهتم المؤلف بإنجاز التقابل الضروري بين مكونات التكتيك العسكري المغربي المتراوحة بين النمط العسكري الإسلامي من جهة، وبين الخصوصيات المغربية المكتسبة من جهة ثانية. وقد استدل على ذلك بوقائع دالة وبتنقيبات عميقة غطت عهود الدولة الإدريسية والدولة المرابطية والدولة الموحدية. ولاستكمال رسم عناصر الصورة، انتقل المؤلف إلى توسيع دوائر بحثه بالتنقيب في آليات التكتيك الحربي في ظل التحول المرتبط بتطور الأسلحة ومستجدات التنظيمات العسكرية خلال عهد حكم كل من المرينيين والسعديين والعلويين. ولإعطاء طابع إجرائي لخلاصاته ولنتائج تنقيباته، اهتم المؤلف برصد المتغيرات الجديدة التي حملتها التكتيكات الحربية المغربية مع بداية توظيف الخطط الخداعية واعتماد أسلوب التحصين والحصار، وبداية الاهتمام بتطوير القوات العسكرية البحرية وانعكاسات ذلك على بنية اشتغال المؤسسة العسكرية المغربية خلال عهود ما قبل فرض نظام الحماية على بلادنا.
وفي كل هذه المحاور المركزية في البحث، ظل الكولونيل أحمد البسيري حريصا على تعزيز عمله بكم هائل من الكتابات والمصنفات، العربية والأجنبية، الكلاسيكية والمجددة، التي اشتغلت على الموضوع، الأمر الذي لا شك وأنه تطلب من المؤلف الكثير من الجهد ومن الوقت لاستنباط الجزئيات الموزعة داخل أكوام وقائع السرد الحدثي التقليدي. ويبدو أن المؤلف قد نجح في تنظيم استغلال نبشه في هذه المظان، وفق رؤية علمية تخصصية ثاقبة، ساهمت في تجميع المادة الخام الأساسية وفي غربلتها وفي تقييمها، ثم في تقويم استثمارها في مختلف النتائج الكبرى التي تنهض عليها مضامين الكتاب. وإذا أضفنا إلى ذلك حرص المؤلف على إنجاز المقارنات الضرورية وعمليات التفكيك المرتبطة بالنقد التاريخي، ثم تعزيز السياقات بسلسلة هامة من الرسوم التوضيحية والخطاطات التفصيلية والخرائط التوطينية والضبط المفاهيمي التاريخي، أمكن القول إن العمل يشكل إضافة أكاديمية رفيعة، لا شك وأنها تكتسب الشروط الضرورية للتأسيس لفرع مستقل داخل دروب “المدرسة التاريخية الوطنية”، على قاعدة استغلال الجهد النظري وتطبيقاته الإجرائية قصد فتح آفاق تطوير النتائج وتوسيع مجالات توظيفاتها، ليس فقط على المستوى العسكري المحض، ولكن – كذلك – على مستوى كل نظم الدولة المغربية في أبعادها الحضارية المتداخلة.