الأستاذ العلامة محمد ابن تاويت التطواني: قُراضة الذهب ومعدن الجوهر.
جريدة الشمال – د.محمد الحافظ الروسي ( العلامة محمد ابن تاويت )
درست عليه الفارسية ما بين سنتي: 1984 و 1986 م ، فغمرني بعطفه، واختارني من بين الطلبة لكي أكتب النصوص التي كان يختارها من الفارسية على السبورة، وذلك أنه كان يعجبه خطي. فكنت أكتب ما يطلبه مني من شعر حافظ الشيرازي خاصة، ثم أكتب ترجمة الشيخ لشعر حافظ نظما. قبل أن أعود إلى مكاني لأسمع شرحه العجيب لهذه النصوص. ومما أذكره اليوم منها شرحه لقصيدة حافظ:
ألا يا أيها الساقيأدر کاسا و ناولها///که عشق آسان نمود اول ولى افتاد مشکلها.
وقد كنت حريصا على أن أكتب كل ما يقوله الشيخ، فاجتمع عندي من شرحه مما كتبته عنه أوراق كثيرة ظلت عندي سنوات إلى أن استعارها مني بعض الأصدقاء، فكان ذلك آخر العهد بها.
وكان مما يدرسنا من كتب ترجمته لكتاب ” چهار مقاله” أي: أربع مقالات. لنظامي عروضي سمرقندي. وهو من بعض ما ترجمه عن الفارسية، كما ترجم عنها تاريخ كرديزي (أو زين الأخبار) لعبد الحي بن الضحاك الكرديزي. وقد حدثني أخي العزيز الدكتور مصطفى المكتوني، أستاذ اللغة الفارسية بكلية الآداب بتطوان، أن الشيخ أهداه نسخة من هذا الكتاب. غير أن أستاذنا لم يكن يلتزم في دروسه بعدم الخروج عن درس الفارسية، فقد كان يستطرد في حديثه إلى النحو، والبلاغة، والعروض، والشعر، والتاريخ، والتفسير، واللغات، ويصحح ما ورد من أخطاء في تحقيقات المحققين. فقد كان له في التحقيق باع طويل. فهو الذي حقق كتاب “اختصار الأخبار عما كان بثغر سبتة من سني الآثار”، و”بلغة الأمنية ومقصد اللبيب فيمن كان بسبتة في الدولة المرينية من مدرس وأستاذ وطبيب”، وجمع وحقق “شعر ابن عبد ربه”، وحقق بالاشتراك كتاب “مستودع العلامة ومستبدع العلامة” لأبي الوليد ابن الأحمر، والجزء الرابع من كتاب “أزهار الرياض في أخبار عياض” للمقري، و”البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب” لابن عذارى المراكشي – قسم الموحدين – و”ديوان الأمير أبي الربيع سليمان بن عبد الله الموحد”. وكان ينصحنا في دروسه بقراءة المقدمة التي كتبها على تحقيقه لكتاب “دلائل الإعجاز” لعبد القاهر. كما كان كثير الاستشهاد بما كتبه في علقه النفيس الذي سماه ” الوافي في الأدب العربي في المغرب الأقصى”.
والعجيب في خلق شيخنا أنه لم يكن يتحدث في دروسه عن نفسه، ولا يتحدث في شيء آخر غير العلم. فقد كانت أعماله تتحدث عنه، وإنما يكثر من الحديث عن نفسه في كل مجمع، ويذكر صفاته التي يتوهمها فيها كلما جلس إليه اثنان من يَعْلَمُ في نفسه الصَّغَار، وفي خُلقه الضَّعَة، وفي علمه الضحالة، فهو محتاج في كل حين أن يصرخ من حيث لا يراه أحد: إني هنا!. ولعلماء النفس في مثل هذا النوع من الناس رأي لا أحب أن أذكره لك هنا. وهم يسمون هذا في علم السلوك: انتفاخ الذات، ويزعمون أن هؤلاء لديهم قابلية أن يُصابوا بنوبات هوس، ونوبات الهوس، هو ما يسميه عامة الناس بجنون العظمة.
ولعل هذا لم يقرأ ما ورد في “التمثيل والمحاضرة” عن البعوضة التيقالت للنخلة: استمسكيفإنيعنكناهضةٌ،فقالت: ماأحسستوقوعك،فكيفنهوضك!. نسأل الله العافية.
أما شيخنا فقد كان عظيما حقا، متواضعا حقا. أذكر أنني لقيته بمرتيل، بعد أن فرغت من رسالتي الأولى عن:” مقاييس جودة الشعر عند نقاد القرن الرابع الهجري”، جالسا عند إسكافي في محل لا يكاد يسع الإسكافي وشيخنا معا، فلما رآني ناداني، فجئته فرحا مسرورا، فلما وقفت بباب المحل سألني: ماذا صنعت؟. فطفقت أحدثه عن البحث وأبوابه وما فيه. فقاطعني: أنا أسألك عن التوظيف، ماذا فعل العميد بشأنك؟. فسكت، إذ لم أجد جوابا، فقد نقلني الشيخ من المثالية التي كنت عليها إلى الواقع الذي ينبغي أن أنزل إليه. لقد كنت أظن الشيخ لا يفكر في مثل هذا، لأن العلم قبل المال، والوظيفة، وما أشبههما، فنبهني الشيخ بسؤاله إلى أمر عظيم، وهو أن العلم لا يكون إذا لم يكن طالب العلم مستغنيا عن الناس، محفوظ الكرامة.
ولست أعرف شيخا درسني يجعل كرامة العالم فوق كل شيء كشيخنا محمد ابن تاويت، رحمه الله تعالى. ومما ذكره لنا منبها على هذه المسألة أنه لما كان بمصر زار الجامعة أحد الوزراء، فلما استقبله الأساتذة تناول العميد منه معطفه وسلمه لأحد الأعوان. فلما انتهت الزيارة اجتمع الأساتذة وأقالوا العميد، لأنهم اعتبروا ذلك الفعل مما لا يليق بعالم ينبغي أن يجعل كرامة العالم فوق كل اعتبار. ولست أستطيع أن أذكر لك هذه الحكاية، ثم تكون لها قوة تأثير تشبه قوة تأثيرها في نفوسنا يوم سمعناها أول مرة، لأنك تحتاج أن تسمعها من الشيخ مباشرة، فقد كان يرويها بغضب، وصرامة، وصوت عميق، وتعريض بمن جعلوا العلم مداسا في أقدام الكبراء.
لقد أحببت الشيخ حبا كبيرا، وكان من قدر الله أن ألقاه أكثر من مرة في الحي الذي كنت أقطن فيه بطنجة، فقد كان أحد أقربائه من جيراننا، وكان يرافق الشيخ في زيارته لطبيبه. فكان فرحي بلقائه في كل مرة يتيسر لي فيها أن ألقاه كبيرا جدا.
ثم انتقلت إلى تطوان سنة: 1992 م وسكنت في حي من أحيائها، فكان من قدر الله أيضا أن أجد الشيخ من سكان ذلك الحي، فكنت ألقاه كل صباح تقريبا عند بقال الحي. ولم يكتب الله تعالى لي أن أنعم بجواره كثيرا، فقد انتقل إلى رحمة الله تعالى بعد هذا التاريخ بنحو سنة. رحمه الله تعالى، وجزاه عنا وعن الأمة خير الجزاء...