بقلم : ذ.محمد القاضي
جريدة الشمال – ذ.محمد القاضي ( (الأندلسيون ) )
الجمعة 17 نوفمبر 2017 – 10:13:18
ونفس الشيء حدث في المغرب، وإن كان بشكل أقل، ولكن الدائرة تتسع شيئا فشيئا، إلا أن ما يمكن الالتفات إليه، هو أن جل الدراسات إن لم يكن في غالبيتها ركزت على الأندلسيين /الموريسكيين/ الذين نزلوا الحواضر (المدن) واستوطنوها، ومنها مدينة شفشاون على سبيل المثال التي آوت العديد من الأسر الأندلسية التي ما زالت تعتز بأحفادها الذين يفتخرون بانتمائهم ويحملون اسم أجدادهم العائلي. (وقد تناولنا هذا في دراسة لنا نشرت في مجلة التاريخ العربي/ عدد58).
ولكن ما لم يحظ باهتمام الباحثين المهتمين – حسب اعتقادي- هو استقرار هؤلاء في البوادي الشمالية، وخصوصا قبائل الأخماس وغمارة الممتدة من ضواحي شفشاون (غاروزيم إلى قبيلة مثيوة) (7 قبائل في الأخماس و9 في غمارة) الممتدة على سلسلة جبال الريف، وخصوصا الواجهة البحرية من غمارة. ولست أول من يطرح هذا الموضوع، فقد سبقت الإشارة إليه من طرف الدكتورة آمنة اللوه في ندوة عن الموريسكيين بمدينة شفشاون، بحيث ذكرت أن جالية (ساكنة) أندلسية استقرت في منطقة أجدير بإقليم الحسيمة، ويطلق على مدشرهم اسم أندلوسين، كما نبه الدكتور حسن الفكيكي هو الآخر إلى أنه يجب الاهتمام بالأندلسيين الذين استقروا بالمناطق الشمالية الجبلية، كما تجدر الإشارة كذلك إلى مجهودات المؤرخ المرحوم محمد بن عزوز حكيم في هذا المجال.
وكانت هجرتهم إلى هذه القبائل في فترات متعددة نظرا لقربها من العدوة الأندلسية، قبل سقوط غرناطة وحتى إصدار القرار النهائي بطرد جميع المسلمين سنة 1609م في عهد الملك فيليب الثالث. إذ كانت هناك هجرات متبادلة بين هذه القبائل والأندلس قبل سقوط غرناطة، علما بأن أصول غمارية وخُمْسِية كانت قد هاجرت إلى مناطق أندلسية خلال فترة الاستقرار السياسي في العدوتين.
ويرى الدكتور محمد بن شريفة بأنه “ما زلنا في المغرب إلى يومنا هذا نلحظ مظاهر ذلك التواصل الذي كان بين المغرب والأندلس رغم مرور قرون على نهاية الأندلس. وما تزال آثار مادية ومعنوية مغربية في إسبانيا اليوم شاهدة على الوجود المغربي الذي كان هناك. وما يزال كذلك تراث الأندلس محفوظا ومستمرا في المغرب تمثله الأسر الأندلسية الأصل في عدد من الحواضر والقرى..” (التراث الحضاري المشترك بين إسبانيا والمغرب) مطبوعات الأكاديمية المغربية.
وكانت مراسي الجبهة وتجساس وتارغة وقاع أسراس ووادي لاو، إضافة إلى مرسى بقيوة بالريف تستقبل وفود المهاجرين الأندلسيين، ثم يتفرقون على القرى والمداشر القريبة منها: كمتيوة، وبني رزين، بني سميح وبني كرير، وتاغصة، وبني زريان، وبني منصور، وبني خالد، وبني سلمان، وبني رجل، وبني صالح، والشرافات والخزانة وبني شكورة، وبني أمحمد، وبني أحمد، وتنغاية، والقلعة وغيرها من القرى والمداشر. فهي قبائل وشعوب أكثر من أن تحصى كما يقول ابن خلدون.
وتتميز بالتفاوت الحضاري، وخصوصا تلك المطلة على البحر الأبيض المتوسط والتي كانت أكثر استقطابا للمهاجرين الأندلسيين.
ويرى عبد الله عنان في كتابه نهاية الأندلس (ص294): “أن من بقي من المسلمين في لوشة وقرية الفخار وبعض أهل غرناطة ومرناشة وأهل البشرة عبروا إلى أراضي قبيلة غمارة”. ألم يكن هؤلاء من أحفاد من هاجر أجدادهم سابقا إلى إسبانيا؟ قد يكون ذلك، لاسيما أنهم استقبلوا من لدن سكانها بحفاوة وعطف.
ولشدة اتصالهم بالأندلس كانوا في أحكام بعض الفروع على مذهب أهل الأندلس، كما يذكر ذلك الشيخ أبو عبد الله محمد النالي الغماري (نوازل العلمي 2/45) حيث إذا حلت بالأندلس كارثة السقوط في يد الإسبان هاجر إليها الكثير من الأندلسيين حتى ضاقت بهم بعض القبائل.
وكان شعورهم هو شعور المضطر إلى اللجوء عند أقربائه، وكثير منهم من كان يحلم بالعودة إلى بلده بعد تهدئة الأوضاع. وترجموا وقائع وأحداث سياسية واجتماعية، فلا يزال يتردد على ألسنة البعض أغنية شعبية كتبت في زمن بعيد تحكي قصة طرد المسلمين من الأندلس ومعاناتهم مع النصارى في منطقة غمارة والأخماس تقول بعض كلماتها:
الأندلس يا حضّار
حين دخلوها الكفار
دمرها القمّار
وابتلت بالبارود
وفي شهر الصيام
يأتونا بالطعام
يبطل لنا الصيام
دائما أسيادي
فلله يا الإسلام
ما فيكم من يزعم
للقتال والزحام
لباب الجهاد
ولكن لما رأوا أن آمالهم قد تبددت، استقروا وصبروا وكافحوا إلى أن اندمجوا وانصهروا في مجتمع جديد مع مرور الزمن، واحتفظوا بعاداتهم وتقاليدهم وأسماء عائلاتهم بل وحتى لهجتهم، وإن كان بعض السكان وجدوا في مجاورتهم مساسا بمصالحهم المباشرة، فاتخذوا موقفا معاديا تجاههم، وخصوصا أن العنصر الجديد كان متفوقا حضاريا وعلميا واقتصاديا واجتماعيا وزراعيا وفنيا، مما جعله يملأ الفراغ الذي كان حاصلا في هذه القبائل.
فمنهم من لجأ إلى النشاط التربوي (التدريس) والإفتاء، والنشاط الفكري، فبرز منهم أعلام كبار في الفقه والعلم والأدب والشعر… ومنهم من امتهن الفلاحة وتربية المواشي، والحرف اليدوية، وعملوا جميعا على تمدين وتحضير كثير من القرى الغمارية والخمسية، فإحساسهم بشخصيتهم المنفردة وتفوقهم سمح لهم بأن يحتفظوا بسلالتهم وطرق معيشتهم بدون شوائب إلى حد ما لفترة طويلة. وقد ظل هذا التمييز واضحا لدرجة يمكن التفريق بين الأندلسي والأصيل من الناحية الشكلية. وذكر مولييراس في كتابه: المغرب المجهول / الجزء الثاني/ ص215 “ويعتبر أهالي قبيلة بني رزين أنفسهم، حفدة الموريسكيين الأندلسيين. وما يؤكد هذا الادعاء هو سلوكهم المتراخي والمخنث والأكثر ميولا إلى السلوكات المدينية”. لأنه كانت هناك قبائل ذات طابع مغربي أندلسي منذ ما قبل سقوط غرناطة، إذ أن أصولها لم تكن بعيدة عن الأجيال الأندلسية المهاجرة كما هو الشأن بالنسبة لبني رزين. وذكر الفقيه الغماري – الأندلسي محمد بن العباس بن عبد الله برهون المتوفى بقرية تاغصا سنة 1241هـ-1826م في مخطوطه (زبدة التقاييد الجلية في أخبار الهجرة الأندلسية) –يوجد في مكتبة المرحوم محمد بن عزوز حكيم- أنه وجد في القبائل الخمسة الموالية للبحر الأبيض المتوسط 143 أسرة أصلها من الأندلس وجلها تحمل أسماء عائلية إسبانية، وفي بحث ميداني قام به محمد بن عزوز حكيم سنة 1951م في القبائل الغمارية العشرة، وجد أن الأسر الميسورة والتي لها مكانة مرموقة وكلمتها مسموعة في تلك القبائل أصلها أندلسي وجل أسمائها العائلية إسبانية وعددها 385 عائلة. وبعض الأسر كانت قد رافقت أسرة الفقيه برهون وذكرها في مخطوطه هي: أولاد مورسيا، وأولاد رضاندو، وأولاد قرديناش، وأولاد كيو، وأولاد الصويري. وقد نبغ منهم العديد من الفقهاء والعلماء والأدباء والشعراء.
إضافة إلى أسر أخرى انتشرت في مناطق سكنية متعددة في القبائل والمداشر الغمارية والخمسية نذكر منها: أجوليان، الكوطيط، الشطبي، يرو، برو، الرايس، مارصو، الصوردو، المدور، النالي، فلون، الشطون، بردال، الريوس، ملوك، القسطلي، القشفاش، الشقوري، الأندلسي، أرماز، مرزوق، بن جمعة، جنينو، الدقون، الداموس، زريق، القصار، قشوشو، قريرو، القيطون، سريسار، عبدون، عذرون، الهليلي، دكون، أغزوال، أغزال، الغدير، الغروش، حيون، ماريو، باطيس، الثغري، الحضري. وقد كون المنظري مؤسس تطوان جيشا كان مركزه (الخزانة). محصنا بجبالها ومن أهل قبائلها. كما أن الكثير من الأسر الأندلسية غيرت لقبها بعد الأحداث التي قام بها الأندلسيون في القرنين 16 و17م أو عن طريق المصاهرة بينها وبين أسماء أخرى أقل أو أكثر تشابها مع أسر أخرى. (عربية كانت أم بربرية) وشكل هؤلاء عنصرا ثالثا ضمن التركيبة السكانية.
وذكر المرحوم عمر الجيدي أن في غمارة أسماء أماكن موجودة أخذت اسمها من أسماء أندلسية، بحيث نعثر في قبيلة بني زيات على قرطبة وشاطبة وإشبيليا. (توجد هذه الأسماء في قبيلة بني زيات (قرطبة بمدشر بويعلي، وغرناطة بمدشر الروضة، شاطبة في بني بداس) وأزغار الأندلس تمييزا عن أزغار البقالين وبني شكورة. وكذا العكس، فكثير من الأماكن في الأندلس، وبعضها لا زال لحد الآن يحمل اسم غمارة مثل Puerta de gomara و Bani Goumara في ناحية إنكا نسبة إلى غمارة، و Gomeriz و Soria Gomara وكان في مدينة غرناطة حي خاص يسمى بمرتفع غمارة (نهاية الأندلس – عنان ص247).
كما تتوج سماء غمارة والأخماس أضرحة كثير من العلماء والأولياء الذين يعتقد في صلاحهم وبركتهم (السيد القسطلي في تلمبوط) وسيدي بلقحة الأندلسي، وسيدي العطار، وسيدي محمد بن علي الغرناطي، وسيدي أحمد الغزال.
كان لهؤلاء الأندلسيين بهذه المناطق الجبلية (الأخماس وغمارة) الأثر البارز في ازدهار الحركة الزراعية، والصناعية، والتجارية، والعمرانية، والفنون، والعلوم، والآداب، والفقه، والفتوى.
ومن المعروف أن اقتصاد هذه القبائل يعتمد على الفلاحة، فمال المنحدرون إلى مزاولة الأنشطة الفلاحية، وشاركوا سكانها “فاستنبطوا المياه وغرسوا الأشجار وأحدثوا الأرحية الطاحنة بالماء، وعلموا أهل البادية أشياء لم يكونوا يعلمونها، ولا عهد لهم بها، فشرفت بلادهم، وصلحت أمورهم، وكثرت مستغلاتهم، وعمت الخيرات. كما يذكر المقري.
لقد جددوا تقنيات الري، وأبدعوا فيها، ومدوا قنواتها، وتجميع المياه وتوزيعه طبقا لأعراف متفق عليها (الحصص- الزمن). وعرض القضايا الاختلافية في هذا المجال على الأعيان من الجماعة التي يترأسها الفقيه أو الأكبر سنا منهم، وذلك كل يوم خميس بعد صلاة العصر بالمسجد (تقليد لمحكمة المياه). ومن الذين اهتموا بأرجوزة ابن ليون في الفلاحة (إبداء الملاحة وإنهاء الرجاحة في أصول صناعة الفلاحة) تقع في 1365 بيت. هو أبو عبدالله محمد بن علي الشطيبي أو الشاطبي الزروالي. له “صنعة الفلاحة” وهو عبارة عن تلخيصات استخلصها من كتب الفلاحة، وأضاف إليها ما أفاده من خبرته الطويلة وتجاربه الخاصة. واعتمد أكثرها على كتاب ابن ليون السابق ذكره. (سعيد أعراب- مجلة دعوة الحق- عدد8، 1965م، ص85).
وحتى المصطلحات الفلاحية التي كانت متداولة وما زالت عندهم، هي مستقاة من الأرجوزة أو من كتب ابن بصال وابن العوام، وتنطبق تمام الانطباق على فلاحة أهل الأندلس.
كما اهتموا بغرس الأشجار المثمرة، وتلقيحها، وتذكير التين (الدكار) وطرق تحلية الكروم، وطرد الطفيليات من أشجار الكمثرى والزيتون والاعتناء بغرس الأزهار والورود على أطراف العراصي والبساتين وتقطير الورد والأزهار (الاعتناء بأشجار الفواكه كحب الملوك والأنجاص، والعنب والبرقوق بأنواعه المختلفة (البلنسي والبرتقيزي) والتفاح وأنواعه والتوت والسفرجل، والرمان (السفري) والتين وأنواعه والمشمش الذي كانت تتميز به القبائل الخمسية إلى أيامنا هذه. ومما كانت تتميز به هذه القبائل وما زالت هو الاهتمام بإنتاج زيت الزيتون والاحتفاظ به في المنازل طول السنة وأحيانا يتفاوتها. وصناعة الرب (الصامت)، وزراعة الفلفل الأحمر بكثرة في منطقة ماكو (الأخماس) وتجفيفه ودقه بالمهراس، وكان يصدر إلى فاس وعرف وما زال يعرف (بالشاونية).