الأنيس
أبحرْتُ في حرِّ الصيف بين أمواج المتوسط بحثا عن صدفات العلم و المعرفة ، بين دفتيْ كتاب من القطع الكبير ، من مائتيْ صفحة ذي إخراج جغرافي و جودة عالية . يحمل عنوان : رحلة العلم من الشرق إلى الغرب . يشتمل المؤلَّف على بابين . للباب الأوّل فصلين . فللفصل الأول أربعة مباحث و للثاني خمسة مباحث . و على نفس منوال الباب الأول ، يأتي الثاني بفصلين و أربعة مباحث لكلٍّ منهما . للمبحث الأخير في هذا الفصل استعارتْ الباحثة عنوان كتاب لشكيب أرسلان : لماذا تأخر العرب و تقدم غيرهم ؟
يضمُّ البحث نصوصا من القرآن الكريم و أحاديث من صحيح البخاري ، و مقدمة بن خلدون و البرهان لابن رشد . الأدوات و المراجع التي أثرتْ البحث تصل إلى 36 مرجع باللغة العربية ، و ستة مراجع مترجمة . و هي تشقُّ البحار في بحثها و تجذف من مصادر و فضاءات ثقافية متعدِّدة المختبرات و الأبحاث العلمية .
بادئ ذي بدء ، صنفتْ المرحلة الحجرية الأولى و العصر الحجري و البرونزي ، ثم جاء عصر الحديد ، مستدلة بسورة الحديد في القرآن الكريم . و الإعجاز العلمي عند الدكتور زغلول النجار . لولا الحديد لما كانت الحياة على الأرض ، إذ يشكلُ الحديد جزءا من ” الهيموكلوبين ” في دم الإنسان ، و في دماء العديد من الحيوانات . الذي عمل فيه الإنسان على تطوير ذاته ، لتقدُم الفكر من أجل البقاء .
قسمتْ المؤلفة العصور إلى الكلاسيكية للإنسان و خروجه من دائرة الصيد و الزراعة إلى عصر الميكانيك ، لوجود معدن الحديد ” و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد و منافع للناس ” صدق الله العظيم( الآية 25 ) .
أنشأت الحضارة السومارية الحرف في الكتابة إلى أنْ ظهرتْ العلوم بتفاعلات الطبيعة مع مجتمعاتها المتعاقبة ، من البدائي إلى العلم البسيط إلى الوعي ، فكانت الذاكرة البشرية خزانا متوازنا على مدى الأزمنة (المؤلفة ) . بحثُ الإنسان عن سبل معيشته هي الدوافع للعلم و المعرفة ، كما يقال : الحاجة أمُّ المعرفة أو أمُّ الاختراع . يتميز الإنسان عن جميع المخلوقات بالفكر و العلوم ، يهتدي بهما لتحصيل معاشه . للصناعة أيضا علاقة تلازمية مع العلم . و عن الفكر نشأتْ العلوم . في البداية خضع العلم لأساطير الإغريق و الهند ، إلى أنْ استقرَّ بعد قرون عديدة ، و كوَّنَ لهويته كيانا مستقلا .
تمَّ اكتشاف الدرجة 360(الدائرة) على غرار أيام السنة الشمسية و القمرية ، وقد تعلق الإنسان فيما بين النهرين بهذين التقويمين . أصبحت بعد قرون أرقاما عربية و بابلية و فارسية و هندية . احتضنتْ المعابد الدينية التنجيم و علم الفلك . توالتْ العلوم عند الطبّ البدائي كمنتوج للحضارات اليونانية و الرومانية و الهندية و الفارسية ثمَّ ترجمتْ إلى اللغة العربية . و لإضافة معرفية في الترجمة كتاب ليحيى لطفي عبد الوهاب بعنوان : اليونان ، مقدمة في التاريخ و الحضارة . و من المراجع أيضا : قصة الفلسفة اليونانية ( أمين ، أحمد و محمود ، زكي نجيب ) . أحد عظماء الفلاسفة الإغريق ، أفلاطون ، و قد أدرك عن التأمل العقلي و العالم المثالي ، لمطلق اليقين ، تأسيس ” الجمهورية الفاضلة ” . اعتمدتْ على منطق الكشف العلمي و قصة الفلسفة ، ل”كارل بوبر” . و من بين التراجمة العرب للفلسفة اليونانية : محمد عبد الرحمن في كتابه : من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية .
من أبرز فلاسفة العرب ، الكندي ” الفلسفة الكندية ” . كان الكندي أعلم رجل في وقته ( ابن النديم )، وقد أخذ عن بطليموس للنظام الشمسي ، و عن أرسطو ، وهو الذي طوَّر المرصد الفلكي ببغداد . يقول عنه الفيلسوف الفرنسي رجاء الجارودي : إنَّ الفلسفة الإسلامية تخلصتْ من قوقعة الفلسفة الإغريقية . إذ جمعتْ بين قطبيْ المعرفة و العلم . هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي ، من كندة بحضر- موت بعُمان ، قحطاني الأصل وهو أول فيلسوف في الإسلام . أطرواحاته عن الأخلاق و ما وراء الطبيعة ( الميتافيزيقا ) و الرياضيات و الصيدلة . عينه المأمون على بيت الحكمة وهو الخطاط الفيلسوف . حوكم بعد ذلك و صودرتْ مؤلفاته أيام المتوكل ، ثمَّ تراجع هذا الأخير عن ذلك لاحقاً .
و قد أحاط بالفكر الفلسفي عند الفرس و الهنود حتى اجتهد في التوفيق بين الفلسفة و الفكر الإسلامي ، رافضا أنْ يتنافى مع العقيدة الإسلامية . فكان موسوعة علمية . بتأسيس العرب لبيت الحكمة حازوا على تفوُّق مطلق في شتى العلوم . لعباس محمود العقاد كتاب بهذا المعنى” التفكير فريضة إسلامية”. و لمحمود عبد الحليم كتاب بعنوان ” التفكير الفلسفي في الإسلام ” . حمل العرب لواء الحضارة زهاء ثمانية قرون في جميع مناحي الحياة . فكانت الريادة للخوارزمي في الرياضيات . فالعلم مدين له باختراع الصفر و مدين له كذلك بمحاولة تنظيم منهجي باللغة العربية لكل المعارف العلمية . أخذتْ مادة ” اللوغاريتم ” اشتقاقا من اسمه وهو صاحبها . وقد يُعزى للعرب اكتشاف الجبر والهندسة و حساب المثلثات . جاء القرآن الكريم بتقسيم الميراث بأحكام رياضية معقدة ، و روعة في الدِقة . أخد الخوارزمي عن حساب الميراث ، و له نفائس في الجبر و الهندسة و الفلك و الجغرافية . وهو الذي اكتشف حلولا من الدرجة الثانية في الجبر، ( المعادلة من الدرجة الثانية ) ، في كتابه . أوجد رموزًا للجذر التربيعي و المكعب و المجهول . ترجمتْ بعد ذلك كتبه إلى اللآتينية في القرن الثاني عشر للميلاد .
أشهر أطباء العرب و المسلمين ، ابن سينا . أخذ عن رسول لله –صلعم- في طبّ الأسنان موضوع السواك الذي جاء به الحديث الصحيح ” لولا أنْ أشقَّ على أمتي لأمرتهم بالسواك قبل كل صلاة ” . فمنذ خمس مائة عام لم يكن هناك ما سميَ بفرشاة الأسنان . و منذئذ عُرفَ عن أطباء العرب طريقة حشو السن . حتى إنَّ أبا القاسم الزهراوي الأندلسي أكد أنَّ السِنَّ عضوٌ نبيلٌ و جوهر شريف . أشهر مؤلفاته كتاب ” القانون في الطبّ ” . و للإضافات النوعية ،من بين المصادر التي اعتمدتها الباحثة: المطالب العالية و مفاتيح الغيب ، للرازي ، وهو أول من اكتشف مرض الجذري و الحصبة ، و جاذبية الأرض ( قبل نيوتن ) .
وقد حصل في مختبره على الكحول الصافي . هم العلماء العرب الذين أخذوا عن علماء الإغريق و الروم و الهند و الفرس فحصلوا على براءات الاختراعات ثمَّ أخذ عنهم علماء الغرب و الشرق ، فالعلم وراثة بين الأمم و ليس حكراً لأحد . اجتهدتْ و أجهدتْ الباحثة قلمها و فكرها بالتنقيب في أمهات الكتب العجمية و العربية ، من تكوين العقل العربي ” محمد عابر الجابري إلى ” الفكر الغربي ” عبد الكريم غلاب ” . كذا ، مذاهب فكرية معاصرة ” محمد قطب ” . و عدَّة نفائس لابن منظور و البيروني و الجاحظ و الفرابي و الجرجاني و الزركلي ، و غيرهم كثر ، فما لبثتْ أنْ جاءت ببحث علمي أكاديمي يستجيب و ضالة الدارسين و الباحثين عن العلم و المعرفة . ما أجمل أنْ يكون القارئ غطاسا و باحثا عن كوامن الدُرِّ و اللؤلؤ في بحار العلم ….