“الإدارة الاستعمارية الإسبانية بالمغرب الخليفي” (2)
الجمعة 11 مارس2016 – 14:17:22
تابع الأستاذ خالد بويقران سلسلة إصداراته المتخصصة في تحولات الأوضاع العامة بمنطقة المغرب الخليفي خلال عهد الاستعمار الإسباني، بإصدار كتاب “الإدارة الاستعمارية الإسبانية بالمغرب الخليفي : بين التطور وخدمة المصالح الاستعمارية ( 1912 – 1956 )”، وذلك سنة 2015، في ما مجموعه 111 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. ويمكن القول إن هذا العمل يعتبر امتدادا للأفق العام لاشتغال الباحث بويقران، حسب ما جسده إصداره الأول الذي رأى النور تحت عنوان “الاستعمار الإسباني بالمنطقة الخليفية : بين آليات التدخل ومخطط الهيمنة” ( 2015 )، وهو الإصدار الذي رسم سقف الاشتغال لدى الباحث بويقران وحدود التجديد في مجال التعاطي مع واقع الاستعمار الإسباني للمغرب. ولقد لخص المؤلف الأبعاد العامة لهذا السقف، عندما قال في كلمته التقديمية : ” تطرقنا في هذه الدراسة إلى أهمية الظاهرة الإصلاحية التطورية للهيكلة الإدارية الاستعمارية، حيث توقفنا عند العلاقة بين المغرب وإسبانيا خلال فترة الحماية 1912 – 1956. حيث لم تكن سنوات الحماية فترة تحول عادي في تاريخ إسبانيا ومعها المغرب، عبر العلاقة بالعمل الاستعماري. فلازمة التحول التي كانت لصيقة بالأوضاع الداخلية الإسبانية لم تترك المجال مفتوحا لأي خيار للمغرب الخليفي إلا الخضوع لسنة التأثر بالخصوصية القانونية من جهة أولى، ومن جهة ثانية بمظاهر التناقض الذي طبع نية الإدارة الاستعمارية المركزية والمحلية بشمال المغرب … طورت مؤسسة الحماية الإسبانية جهاز المفوضية السامية ومعه جهاز المخزن الخليفي، وربطت الإدارة المركزية بالشأن الاستعماري … تحولت الإدارة العامة للمستعمرات خلال هذه الفترة إلى سكرتارية تقنية للمغرب، وهو ما عكس ضعف الاهتمام به خلال المرحلة التي عمر فيها هذا الجهاز ارتباطا بتحولات النظام السياسي بإسبانيا، وبالضبط مع وصول الجنرال فرانكو إلى السلطة …” ( ص ص. 6 – 7 ).
وللاستجابة لهذا الأفق العام في الدراسة وفي التجميع، حرص المؤلف على توزيع مضامين بحثه بين بابين متكاملين، اهتم أولهما بالبحث في تحولات بنية الإدارة الاستعمارية الإسبانية، مبرزا الحيثيات المرتبطة بإنشاء مؤسسات مركزية في تصريف هذه السياسة الاستعمارية على الأرض المغربية، وعلى رأسها “الإدارة العامة للمغرب والمستعمرات” ثم “السكرتارية التقنية للمغرب”. وفي الباب الثاني، استفاض المؤلف في تجميع الوقائع والنصوص القانونية المؤطرة للجهاز الإداري الاستعماري المحلي بالمغرب الخليفي، وعلى رأسه المفوضية السامية أولا ثم جهاز المخزن الخليفي ثانيا. وفي كل هذه التفرعات الإدارية للموضوع، ظل المؤلف وفيا لنهجه في تجميع النصوص التشريعية وفي تصنيفها في إطار الفصول المركزية المؤطرة لمتن الكتاب. وبذلك استطاع تقديم متن توثيقي يقدم غزارة استثنائية في المعطيات التقنية، مع غياب بعد تحليلي أو تركيبي لتداخل الرؤى الإسبانية مع نظيراتها المغربية بخصوص قراءة واقع هذه الرؤى وإمكانيات استغلالها كأرضية لتقديم قراءة تاريخية تركيبية وتحليلية ونقدية تتجاوز منطق التجميع التقني حسب ما حددنا معالمه في تقديمنا السابق لكتاب “الاستعمار الإسباني بالمنطقة الخليفية”. ومرة أخرى، نجد أنفسنا أمام حقيقة غير علمية، تتمثل في الغياب الكلي للوثائق الخام الضرورية لتشريح الأجهزة الإدارية الكولونيالية الإسبانية للمرحلة المعنية بالدراسة، إلى جانب غياب كلي للوثائق المغربية ذات الصلة والموزعة بين الأفراد والقبائل والزوايا وبعض الجمعيات والإطارات المدنية. ويتعلق الأمر – أساسا – بالمراسلات الإدارية الإسبانية والمخزنية، إلى جانب المؤسسات المغربية غير الرسمية مثل الأحزاب والجمعيات ومعاهد التعليم والمجالس المحلية والمحاكم والمستشفيات … أضف إلى ذلك، الغياب الكبير للكتابات المغربية التي اهتمت بالموضوع، إما بشكل جزئي أو كلي، حيث لا نقف – إطلاقا – في كتاب الأستاذ بويقران على نتائج تنقيبات الرواد المؤسسين من أمثال محمد بن عزوز حكيم وعبد العزيز خلوق التمسماني ومحمد داود … وهي الملاحظة التي لا شك وأنها تمس بالمصداقية العلمية للعمل، حسب ما سبق أن أوضحنا أبعاده في تقديمنا للإصدار “الآخر” للأستاذ خالد بويقران.
باختصار، لا يمكن للكتابة التاريخية أن تتحول إلى سجل تقني أو إحصائي للوقائع وللظواهر المدروسة، بل هي تركيب وتحليل في إطار تفاعلي، يجعل المعرفة التاريخية تتأسس على قواعد النقد التاريخي في مستوياته الداخلية والخارجية المتداخلة. ولا يمكن لأي عمل تجميعي تقني أو إحصائي أن يغني الباحث عن جهود التحليل والتفكيك ثم إعادة تركيب الخلاصات في إطار نسقي يحترم مكتسبات البحث العلمي وشروطه الإجرائية المؤطرة. بمعنى، أنه لا مجال للحديث عن كتابة تاريخية محكمة بدون استغلال التجديد المنهجي الواسع الذي حققته / وتحققه المدارس التاريخية العالمية الراهنة. أما الادعاء بتواري الإطار المنهجي، وبنزوع كل موضوع بحث نحو وضع منهجه الخاص به كما يتضح من خلال إصداري الأستاذ بويقران، فذاك أمر لا يعمل إلا على غض الانتباه عن نتائج الطفرات الهائلة التي حققها مجال علم التاريخ، داخل المغرب وخارجه. فالتاريخ، على الأقل منذ عهد ابن خلدون، لم يعد مجرد تجميع إخباري خالص، بل تحول إلى تحليل تركيبي قادر على تفسير ميكانزمات التحول في الزمان وفي المكان، من أجل وضع جسور التحليل الناظم للممكنات الثلاث للدراسة التاريخية النسقية، استثمارا لغنى الماضي، ورصدا لتحولات الحاضر، واستشرافا لإمكانيات المستقبل .