“الاستعمار الإسباني بالمنطقة الخليفية”
الخميس 25 فبراير 2016 – 15:34:41
وفي هذا الإطار الأخير، عرف مجال النشر العلمي المتخصص تدفقا كبيرا، ازدادت وتيرته بشكل لافت خلال السنوات القليلة الماضية، بعد أن أضحى الموضوع يغري باحثي الضفتين بالخوض في دهاليزه، قصد تحقيق التصالح المنشود مع عطاء التراث التاريخي المغربي الإيبيري المشترك، سياسيا وثقافيا وجيوستراتيجيا وهوياتيا. في إطار هذا الاهتمام المتجدد، يندرج صدور كتاب “الاستعمار الإسباني بالمنطقة الخليفية : بين آليات التدخل ومخطط الهيمنة ( 1912 – 1956 )”، لمؤلفه خالد بويقران، خلال سنة 2015، في ما مجموعه 302 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. والكتاب، محاولة جريئة لاقتحام حقل ألغام مجالات التدخل الاستعماري الإسباني الذي كان يستهدف تفكيك بنية الدولة والمجتمع بالمنطقة الخليفية، في أفق تطويعها وتوجيهها لإشباع نهم النظام الكولونيالي الإسباني الجريح، عقب فقدانه لآخر مستعمراته بكوبا وبالفلبين عند نهاية القرن 19 ومطلع القرن 20. لقد جسد النظام الإداري الإسباني بشمال المغرب محاولة صريحة لتجاوز الأعطاب النفسية التي حملتها إسبانيا الضعيفة مقارنة مع الإمبرياليات الفرنسية والإنجليزية الزاحفة، كما شكلت محاولة لإنقاذ ماء الوجه أمام تناقضات الداخل وبداية اهتزاز مكانة النظام الملكي داخل الدولة، وأمام تصاعد المد الفاشي الديكتاتوري الذي جسدته ديكتاتورية بريمو دي ريفيرا أولا، ثم ديكتاتورية فرانكو ثانيا. فكانت الساحة المغربية واجهة مشرعة للحسم في الخيارات السياسية الإسبانية الداخلية، وكانت الإدارة الإسبانية بالشمال إحدى أهم الأذرع المتحكمة في مختلف اتجاهات هذه الخيارات. لذلك، ظل الباحثون والمؤرخون يعتبرون هذه الإدارة مدخلا لا يمكن تجاوزه عند دراسة مجمل أشكال التدافع السياسي التي عرفتها إسبانيا خلال عقود النصف الأول من القرن الماضي، إلى جانب أنها كانت عناصر ناظمة لنسق التحولات التي عرفتها منطقة الشمال نفسها، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ودينيا.
ولقد حاولت دراسة خالد بويقران مقاربة بنية هذه “العناصر الناظمة” في إطار رؤية تاريخية تصنيفية، لخص المؤلف أهم أبعادها في كلمته التقديمية، عندما قال : ” تطلب فهم النموذج الاستعماري الذي قادته إسبانيا في المنطقة الخليفية خلال الفترة الممتدة ما بين سنة 1912 و1956 دراسة وصفية تحليلية للتطور الذي عرفته أجهزة الحماية الإسبانية، لكونها المهيمنة على ساحة القرار السياسي والعسكري، إذ يظهر الجانب التحولي التطوري في طبيعة الموضوع نفسه. وهو ما يتطلب الوقوف على جرد ووصف هذه الأجهزة، ورصد تغيراتها مع تقدم عمل الحماية في المنطقة الخليفية، ارتباطا بالتذبذب والتقلب الذي عرفه النظام السياسي في المتربول. جعل ذلك الوضع الاستعماري في المغرب متحولا، بل مرتبطا ورهينا بالوضع الداخلي الإسباني. فمع تنحي الملكية دخلت إسبانيا في دوامة من الاضطرابات والأزمة الداخلية، حيث لم تنجح الديكتاتورية العسكرية للجنرال ميغيل بريمو دي ريفيرا، ولا النظام الجمهوري في تحقيق الاستقرار. ومن هنا كان هذا العمل محاولة لفك طلاسم معادلة الوجود الإسباني على أرض المغرب، بالتعمق في خبايا استراتيجية عمل مؤسسة الحماية، ذي العلاقة الوثيقة بسياسة إسبانيا في شقها الاستعماري … ” ( ص. 6 ).
وللاستجابة لأفق هذا المطلب المقارباتي في التصنيف والتجميع، حرص المؤلف على توزيع عمله بين بابين مركزيين، إلى جانب فصول تجزيئية سعت إلى مقاربة بنية الإدارة الاستعمارية الإسبانية بالمنطقة الخليفية.
في هذا الإطار، اهتم الباب الأول بالبحث في آليات التدخل الاستعماري الإسباني بشمال المغرب، من خلال رصد وسائل التغلغل الكولونيالي مثل المسح الخرائطي وأجهزة المراقبة وتكوين المترجمين والمستعربين. وفي الباب الثاني، انتقل المؤلف للتعريف بالأجهزة الخدماتية التي اعتمدت عليها الإدارة الإسبانية في تغلغلها بالشمال، وعلى رأسها أنظمة التعليم والخدمات الصحية والنظام القضائي. وقد اعتمد المؤلف في ذلك، نهجا توثيقيا، استند إلى مجموعة من الوثائق ومن المصنفات الإسبانية ذات الصلة بموضوع البحث. فكانت النتيجة، إنجاز دراسة هامة لا شك وأنها تساهم في إعادة تحيين إبدالات ماضي منطقة الشمال، في أفق تحويلها إلى موضوع متجدد، في قضاياه وفي أسئلته وفي مقارباته وفي آليات البحث في خباياه وتفكيك بناه.
ومع ذلك، ومع التأكيد على كل القيم المضافة التي يقدمها الكتاب لمجال البحث العلمي المتخصص في ماضي منطقة الشمال، فالعمل يثير العديد من الملاحظات والتساؤلات المرتبطة بمنهجية التجميع والتصنيف والاستثمار بالنسبة للمادة الخام التي تم توظيفها في الكتاب. ترتبط أولى الملاحظات المثارة بهذا الخصوص، بغياب كلي للعديد من الأسماء المغربية والإسبانية التي راكمت أعمالا تأسيسية حول التجربة الكولونيالية الإسبانية بالمغرب، مثلما هو الحال – على سبيل المثال لا الحصر – مع أعمال كل من عبد المجيد بن جلون وامحمد بنعبود ومحمد الشريف ومصطفى المرون ومحمد العربي المساري وماريا روزا دي مادرياغا وعلي بولربح وجان وولف ومحمد الأمين البزاز، إلى جانب غياب الاستثمار العلمي لرصيد الإصدارات الصحفية بمنطقة الشمال من خلال منابرها الإعلامية الكبرى مثل جريدة “الحرية” أو جريدة “الحياة” أو مجلة “السلام” أو جريدة “الوحدة المغربية”، ثم غياب الاستثمار التأصيلي لأعمال الرواد الذين صنعوا الأحداث بالمغرب الخليفي خلال عهد الاستعمار، مثلما هو الحال مع أعمال محمد داود وعبد الله كنون وعبد الخالق الطريس ومحمد المكي الناصري والتهامي الوزاني والفقيه محمد المرير … أضف إلى ذلك، ارتكاز البحث إلى رؤية تجميعية تقنية اهتمت بما وفرته البيبليوغرافيا الإسبانية فقط، مع التغاضي عن مجالات أخرى للاستقطاب، مثل المؤسسات الثقافية والرياضية والفنية، ونستدل في هذا الباب – على سبيل المثال لا الحصر – بمسرح سربانطيس بطنجة وبمسرح إسبانيول بتطوان وبمسرح مكالي بأصيلا وبمسرح أبينيدا بالعرائش، إلى غير ذلك من المؤسسات المتعددة التي أنجزت حولها دراسات هامة ساهمت في الكشف عن حقيقة وظائفها المركبة في مشروع الاستقطاب الاستعماري الإسباني بالمغرب.
و حتى بالنسبة للكتابات المرجعية الخاصة بأنظمة الاستقطاب الاستعماري الإسباني، فإن المؤلف لم يستغل أعمالها إلا بشكل جزئي وفي إطار ضيق جدا، مثلما هو الحال مع طريقة استغلاله لنتائج أعمال كل من محمد بن عزوز حكيم وعبد العزيز خلوق التمسماني وبرنابي لوبيث، بل إن موسوعة “معلمة المغرب” بما احتوته من توثيق دقيق للكثير من أعلام الشمال، لم تنل إلا اهتماما ضيقا من قبل المؤلف، وهو الاهتمام الذي لم يشمل إلا الجزء رقم 15 من المعلمة المذكورة، حسب ما أشار المؤلف إلى ذلك في لائحة بيبليوغرافيته المرفقة. ونفس الأمر ينطبق على تعامل المؤلف مع منشورات كلية الآداب بتطوان ومع منشورات الجمعيات المهتمة وعلى رأسها جمعية “تطاون أسمير”، إلى جانب الإهمال الكلي لرصيد المجلات العلمية المتخصصة، سواء خلال عهد الاستعمار أم خلال زماننا الراهن، مثلما هو الحال مع دورية “تامودا” أو مع مجلة “كتامة” أو مع دورية “مجلة دار النيابة” أو مع دورية ” الوثائق الوطنية” التي كان يصدرها المرحوم محمد بن عزوز حكيم، … وإذا أضفنا إلى ذلك، تغييب المؤلف – بشكل كامل – لرصيد الوثائق المحلية الموزعة بين العائلات والمهتمين والإطارات الثقافية والعلمية، أمكن القول إن الكتاب يقدم رؤية إسبانية لبنية النظام الإداري الاستعماري بالشمال، بعيدا عن تقاطعاته الهيكلية التي بلورها المغاربة في إطار سعيهم لإجهاض المشروع الكولونيالي الإسباني ببلادنا.
فمثلما لم نقف في الكتاب على المحددات الكبرى لمعالم هذا المشروع الهيمني، مادام المؤلف قد نحا نحو تكريس مبدأ غياب معالم واضحة لهذا المشروع، فقد ظل الكتاب يردد أحكاما عامة عبارة عن تجميعات كمية لمعطيات معروفة ومتداولة بين الباحثين بما فيهم غير المتخصصين في تاريخ شمال المغرب، في غياب الكثير من الأسئلة المركبة حول وظائف الجهاز الإداري وتأثيراته القائمة والمفترضة وأشكال التفاعل المغربي مع هذه التأثيرات. فما الجديد الذي يقدمه هذا العمل ؟ وهل استطاع أن يضيف اجتهادات نوعية لحصيلة التراكم العلمي المنجز إلى حد الآن ؟ أسئلة مشروعة تثيرها القراءة المتأنية لمضامين الكتاب…