الانقلاب في تركيا ودرس الوفاء للديمقراطية
الخميس 28 يوليــوز 2016 – 111:37:32
لم يستفق العالم بعد من وقع الارتدادات العميقة التي خلفتها الليلة الظلماء ليوم 15 يوليوز الماضي، عندما تحركت تشكيلات عسكرية تركية من أجل القيام بانقلاب عسكري ضد السلطة المدنية المنتخبة ديمقراطيا. كانت ليلة طويلة، تكاثفت فيها الأحداث، وتحركت عبرها الأهواء، وتضاربت بخصوصها الرؤى.
ولم يكن أحد بقادر على الإمساك بتلابيب التفاصيل حول ما وقع/وما كان يقع لاعتبارات شتى، لعل أبرزها مرتبط بكثافة الضغط الإعلامي الذي لا يبدو أنه كان قادرا على تقديم خدمة تستجيب لنهم المتلقي في استيعاب نوامس التغير التي كانت تعرفها بلاد الأناضول. ولعل مما زاد الأمور استفحالا على أمواج القنوات التلفزيونية الموجهة، بروز مسارين اثنين في التعاطي مع الوقائع والأحداث، ارتبط أولهما باستباق مثير للتكهن بالتداعيات، أو لنقل بابتهاج، بعض القنوات للخطوة العسكرياتية الانقلابية لتصفية بئيسة لحسابات ضيقة مع القيادة التركية وعلى رأسها رئيس الدولة طيب رجب أردوغان مثلما كان الحال مع العديد من القنوات الأمريكية والأوربية، وثانيهما يرتبط بإغراق هذه القنوات بسيل جارف من “المحللين” الذين أضحوا يتحدثون في كل شيء، نعم كل شيء، مادام ذلك كان يستجيب لمنطق اشتغال الكثير من حاملي رؤى استعجلت التغيير، محملة أردوغان وحزبه كل شرور الدنيا ومسؤولية كل “كوارث” تركيا الراهنة. وكم كان بئيسا وضع هؤلاء “المحللين” الذين أضحوا يتباكون على مصير الشعب التركي وعلى “مآسيه” في ظل حكم قيادته الحالية.
وعلى الرغم من أن عدة منابر إعلامية ظلت تتريث في استصدار خلاصات الوقائع المميزة للأحداث وحقيقة مآلها النهائي، فإن بعض القنوات الموجهة قد أعطت لنفسها الحق في استباق الأحداث وفي الحكم على المصير النهائي لهذه الأحداث، بل وفي التنظير لمرحلة ما بعد أردوغان، ولعل فيما قامت به قناة “الميادين” أو مجموع القنوات المصرية، خير دليل على ما نقول، وعن الكيفية التي تخلى بها بعض “الإعلاميين” عن حيادهم وعن مهنيتهم المفترضة في تقديم خدمة إعلامية محايدة وراشدة، بعد أن تحولوا إلى صناع لوقائع افتراضية لتطورات كانت لاتزال تتفاعل على الأرض. ولعل من الأمور المثيرة للسخرية، عزوف القنوات المصرية “ومحلليها” للتبشير بحدث الانقلاب مباشرة بعد وقوعه بلحظات قليلة، بل إن البعض منهم دعا من منبر هذه القنوات إلى عدم استعمال لفظة انقلاب، مادام أن الأمر كان يتعلق – في نظره – بثورة حقيقية مكتملة الأركان، تذكرنا بوضعية التماهي مع الحالة المصرية التي اجتاحت هؤلاء الإعلاميين عند الانقلاب على الرئيس محمد مرسي. وفي اليوم الموالي، وعندما اتضح أن الانقلاب قد فشل، تحول الخطاب بشكل مثير وأصبح فرسانه يتحدثون عن مسرحية سيئة الإخراج يشرف عليها أردوغان، إلى غير ذلك من الأحكام الانفعالية المثيرة للشفقة.
وفي انتظار أن تنكشف الرؤى عن كل حقائق ما وقع ليلة 15 وصبيحة 16 يوليوز الماضي، وهي الحقائق التي لا شك وأنها تقدم المواد الضرورية لصناعة الشواهد الرصينة لتمكين مؤرخي الزمن الراهن وعموم الباحثين المهتمين بالشأن التركي من تقييم التفاصيل، نكتفي بتقديم ملاحظات أولية نعتبرها أرضية للنقاش الهادف حول سر نجاح حركة “الانقلاب ضد الانقلاب”، بامتدادات هذا النجاح على مجمل تطور الأوضاع العامة المرتبطة بحالة الردة التي تهيمن على الواقع العربي الراهن. تتوزع هذه الملاحظات المدخلية على الشكل التالي:
أولا – لا جدال في أن درس الديمقراطية يظل أكبر منتصر في كل ما وقع، ولا شك أن السيادة الشعبية عندما يحصنها فاعلوها ويوفرون لها الحضن الآمن، تتحول إلى قوة قادرة على إفشال المؤامرات والدسائس والجرائم والخطط الهادفة إلى الالتفاف على الإرادة العامة للأمة. فإذا نال الحاكم ثقة الشعب، فالمؤكد أن هذا الشعب لن يخذله كلما تطلب الأمر ذلك. بمعنى، أن أردوغان لم يكن يؤمن إلا بقوة سنده الشعبي المرتكز إلى إنجازات ملموسة في الواقع، نقلت تركيا إلى إحدى أبرز القوى الاقتصادية الصاعدة في العالم، وإلى إحدى أنجح النماذج التنموية الراهنة، بمؤشرات إحصائية دالة وخاصة على مستوى قيمة الناتج الداخلي الخام ووضعية الميزان التجاري ووضعية المديونية الخارجية ومعدل التضخم ومعدل البطالة والتعليم والبحث العلمي… كان أردوغان يدرك أن مثل هذه المنجزات ستصبح حصانه الرابح في مواجهة خصومه، وكذلك كان…
ثانيا – اتضح أن تركيا قد انتقلت الآن إلى مرحلة الجمهورية الثانية، إذ لم تعد المؤسسة العسكرية مؤتمنة على الديمقراطية، بل أصبحت هذه المسؤولية ملقاة على عاتق الشعب، الأمر الذي حمل درسا بليغا ليس فقط للفرقاء السياسيين بالداخل، ولكن لكل المنشغلين بالحالة التركية بالمحيطين الإقليمي والدولي. لذلك، كان بديهيا أن ينخرط الجميع، أي كل من يؤمن بالقيم الديمقراطية، في هذه الموجة، بما في ذلك قطاعات من اشد معارضي الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية مثل القوى العلمانية والحركات القومية الكردية، معتبرة أن لا شيء يبرر الانقلاب على الديمقراطية وأن لا مبرر للعودة إلى عهد الانقلابات التي كلفت تركيا الشيء الكثير، وخاصة خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. فالانقلاب، لم يكن – في نهاية المطاف – ضد أردوغان وحزبه، ولكن ضد الديمقراطية التدبيرية للاختلاف حسب ما هو متعارف عليه كونيا.
ثالثا – لم تتردد النخــب العلمـــانية والمثقفين والإعـــلاميين عن الوقوف في وجـه الانقـــلاب، الأمــر الــذي سـاهــــــم – منذ البداية – في عزل المجموعة الانقلابية، مما يدفع في اتجاه إجراء التقابلات الضرورية بين نبل هذا الموقف من جهة، وبين بؤس ما وقع بمصر غداة انقلاب السيسي ضد الرئيس الوحيد والأوحد المنتخب ديمقراطيا في تاريخ هذا البلد من جهة ثانية. وبدون العودة لإثارة حقيقة تآمر قطاعات واسعة من نخب مصر ضد الإرادة الشعبية وتنكرها للقيم الفكرية والأخلاقية المؤطرة للممارسة الديمقراطية النبيلة، نؤكد أن التاريخ يشهد كيف ساهمت قطاعات واسعة من مثقفي مصر ومن علمانييها ومن ديمقراطييها في وأد الديمقراطية وفي إرجاع عجلة التطور بمصر إلى الوراء بعقود زمنية طويلة. رابعا – قد أختلف مع أردوغان، وقد أنخرط في حملة معادية لتوجهاته، لكني لا أقبل – أبدا – بحكم العسكر ولا بسطوة الانقلاب.
هذا هو الدرس الذي استوعبه الشعب التركي الذي عانى من ويلات الانقلابات العسكرية في السابق، لذلك، كان بديهيا أن يتحدى صوت المدفع وأن ينزل للشارع لحماية سيادته. كل النخب كانت هناك، وكل الأحرار كانوا هناك، وقبل ذلك، ظلت قطاعات واسعة من المثقفين تشكل حاضنة لأردوغان ولرمزية تجسيده للإرادة الحرة. ونتيجة لذلك، لم يتطلب الأمر إلا دعوة سريعة صدرت في بضع ثوان من الرئيس، لكي يغرق الشعب الشوارع والساحات بطوفان بشري تصدى للمدرعات وللدبابات بصدوره العارية. هذا هو الدرس الذي لم تستوعبه النخب المصرية غداة انقلاب السيسي، فكان ما كان…
خامسا – تأسيسا على الملاحظة السابقة، أمكن القول إن الدفاع عن الحق على الرغم من الاختلاف مع حامله يظل عنصرا حاسما لإضفاء على الإنسان إنسانيته وللديمقراطية معناها النبيل الوحيد والأوحد. أما الاستنجاد بالعسكر تحت أي مبرر وفي أية ظروف، فإنه لا يعمل إلا على إعاقة حركة تطور التاريخ.
فالديمقراطي يناضل من أجل الديمقراطية حتى عندما تكون نتائجها ضد إرادته وضد طموحاته، وما سوى ذلك، لن يكون إلا ضحكا على الذقون تمارسه النخب المعاقة لحداثة معطوبة في زمن عربي بئيس. أما تفاصيل ما وقع ليلة 15 يوليوز بتركيا، فتلك أمور تبقى للتاريخ ولمكر من ينبري لكتابة هذا التاريخ، سواء في إطاره الوظيفي الموجه أم في مستوياته المحايدة النزيهة.