– في العالم العربي:
ا- في الجزائر؛ الأستاذ إبراهيم رماني:
لا شك أن هناك عددا لا يستهان به من الباحثين الذين تناولوا “التناص” ظاهرة ومصطلحا في الجامعة الجزائرية، ومن بين هؤلاء، الدكتور عبد الملك مرتاض([1])، والأستاذ إبراهيم رماني([2])، وقبل تلخيص آراء ذ. رماني التي وقع عليها هنا الاختيار لطابعها التطبيقي، وتجنبا للتطويل بتلخيص آراء أكثر من دارس، نشير إلى أن د. عبد الملك مرتاض كتب دراسة نظرية تحت عنوان “فكرة السرقات الأدبية ونظرية التناص”. ونشرها ضمن مجلة “علامات” السعودية المتخصصة في النقد الأدبي([3])، يقارن فيها بين التناص بالمفهوم الغربي وبين ما يعرف بالسرقات في النقد والبلاغة العربيين، فإنه، حسب اعتقاده – «بدون العودة إلى التراث النقدي العربي لمحاولة استكناه ما قد يكون فيه من بذور لمثل هذه المسألة…لا يتأتى لنا أن نسهم في إنتاج نظرية نقدية قائمة على التحاور والتطلع إلى إثراء حقول المعرفة الإنسانية»([4]). وقد عقب عليه د. صالح معيض الغامدي في الجزء الثاني من المجلة، ننقل من تعقيبه ما يلي: «جاء بحث الدكتور عبد الملك مرتاض متميزا عن غيره من أغلب الدراسات التي تناولت موضوع السرقات في النقد العربي القديم، وذلك لأنه اقترب من هذا الموضوع برؤية جديدة، وهي محاولته ربط ظاهرة السرقات بنظريات التناص في النقد الغربي. ومحاولة الربط هذه تمت في هذا المبحث على مستويين؛ فعلى المستوى الأول نجد أن الكاتب حاول أن يستبدل مفهوم مصطلح السرقات وما يحمله من معان سلبية تنفي الإبداع، بمصطلح التناص الذي يخلو من هذه المعاني السلبية([5]). أما على المستوى الثاني فنجد أنه حاول إثبات أن النقد العربي القديم قد عرف فكرة التناص “معرفة معمقة تحت شكل السرقات الشعرية”»([6]). وقد مر بنا اختلاف التصور الذي ينبني عليه مفهوم التناص في أصوله لدى الغرب عن التصور الذي يشكل خلفية السرقات وغيرها من أدوات التناص كالاقتباس والتضمين والتلميح والتورية…في النقد والبلاغة العربيين دون أن يعني ذلك بحال تفوق مفهوم التناص الغربي على مفاهيم العرب الداخلة في هذا الباب بسبب من التصور، ومن ثم دون التحمس للادعاء القائل بأن العرب سبقوا لهذا أو ذاك مما قد يشجع على الركون إلى الماضي ومعاداة كل جديد جملة وتفصيلا. فإذا تم الوعي بهذه الخلفية فإن الاستفادة من كل الأدوات المنهجية المتاحة أمر ممكن بشرط إخضاعها للخصوصية الحضارية، فإن ما قد يُمتع الإنسان الغربي قد يؤذي الإنسان العربي المسلم، وقديما قال المتنبي[الطويل]:
بِذا قَضتِ الأيامُ بين أهلِها | مصائبُ قوم عند قوم فوائدُ([7]) |
أما ذ. إبراهيم رماني، وفي دراسة له بعنوان “النص الغائب في الشعر العربي الحديث”([8])، فيقرر بأنه يمكن استيعاب نص ما وفهم دلالاته دون معرفة ما يشتمل عليه في بنيته من نصوص مستترة يطلق عليها مصطلح “النص الغائب” اقتداء، كما هو بيّن، بالباحث المغربي د. محمد بنيس في رسالته (ظاهرة الشعر المعاصر).
ويسرد الباحث بعد هذا التقديم جملة من الأفكار جلها، إن لم نقل كلها، مقتبسة من محمد بنيس لكونه “المصدر” الوحيد والأساس في مراجعه؛ فعنه ينقل قول كريستيفا “كل نص هو امتصاص أو تحويل لوفرة من النصوص” ليدعم قوله بأن أي نص لا يمكنه أن يكتفي بذاته، بل لا بد من انفتاحه على العالم الخارجي بمختلف مكوناته، فهو تركيب معقد لنصوص كثيرة ومتنوعة. وعنه ينقل كذلك القول بأن الشعر المعاصر أكثر تقدمية في التعامل مع النصوص الغائبة. وإن كانت عبارته عن ذلك قلقة حيث يقول «ولم يعد النص الغائب اجترارا لنص آخر على النمط القديم (التضمين)» فلا ندري ما هو النص الذي ينبغي أن “يجتر” الآخر أهو النص الحاضر (اللاحق) كما هو مقرر في طبائع الأشياء أم النص الغائب كما يفهم من العبارة!؟. وبمحمد بنيس يتأثر أيضا في لغة التدمير والاختيال بمنجزات الحداثة؛ في ربطه التناص بما يسميه “انفجارا معرفيا” يعمل «على تثوير جذري للنص بجعله مجالا للممارسة المتجددة التي يتفجر من خلالها التناص»([9]). وفي تضخيم الخلفية المعرفية لشعراء الحداثة «وإصرارها على ملاحقة الثقافة الموسوعية والمتخصصة»([10])، وعنه، أيضا ينقل وعليه يحيل عند الحديث عن “قوانين” الاجترار والامتصاص والحوار([11])، وطريقتَه يتبع في تحديد مجالات النص الغائب، إلا أنه يقسمها، هو، لطبيعة موضوعه العامة، إلى ثلاثة مجالات: الموروث الشعري، والموروث الحضاري العربي، والموروث الحضاري الغربي.
1.في الموروث الشعري يلاحظ الكاتب تفاوت الشعراء في حظوظهم من المعرفة بهذا الموروث فصيحه وعاميه وقديمه وحديثه في الشرق والغرب، مسجلا ضعف التفات الحداثيين أو الشعراء الجدد إلى شعرنا العربي القديم. وفي الدراسة التطبيقية للنص الغائب الشعري يبدأ بالنص الغائب العربي فينقل بعض شواهد د. محمد بنيس([12]) ثم يأتي بمثالين آخرين لكل من “الأخضر فلوس” و”السياب”. مع الاكتفاء في التحليل بتعليقات موجزة من قبيل قوله: «ويكون هذا أداة للتناص الذي يدمج المناخ الحزين في شعر السياب بمناخ التجربة الجديدة ويلقي عليها كثافة دلالية وجدانية»([13])، وذلك تعليقا على تضمين “الأخضر فلوس” لشعر “السياب” في المقطع التالي؛ حيث يأتي هذا التضمين حرفيا في السطرين الأول والثاني:
“مُنطَرِحاً أَصيحُ، أَنهشُ الحِجار:
أريد أن أموت يا إلاه”.
فرَّتْ مِنَ العينينِ أطيارُ الهوى
وتَلَفَّعَتْ أعشابُها بالصَّمتِ في الليلِ الحزين([14])
وعند انتقاله إلى النص الغائب الغربي يقول :«أما النص الغائب الغربي فإن آثاره لا تكاد تخلو منها جميع النصوص الشعرية الحديثة»([15])، بخلاف الشعر العربي القديم الذي يقل وجوده في هذا الشعر. ويستشهد الباحث في هذا المجال بالشواهد المتداولة فيركز على التأثير الإليوتي في الشعراء العرب، ومنهم صلاح عبد الصبور ومحمود درويش.
[1] – أستاذ بجامعة وهران – المشكاة 18: 116.
[2] – أستاذ بجامعة الجزائر – الوحدة؛ 49: 53
[3] – علامات ج1مج1. ذو القعدة 1411 ماي 1991
[4] – نفسه؛ 84.
[5] – هنا خطأ شائع في استعمال (استبدل) وكان على الكاتب أن يقول “…أن يستبدل مصطلح التناص بمفهوم مصطلح السرقات” – قال تعالى ]أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير[، البقرة؛61.
[6] – علامات، ج2، مج1، جمادى الآخرة 1412 ديسمبر 1991 ص؛ 184.
[7] – ديوان المتنبي بشرح البرقوقي؛ 1: 399.
[8] – الوحدة؛ 49: 53-60.
[9] – نفسه؛ 53.
[10] – نفسه؛ 54.
[11] – نفسه؛ 54،60 الهامش: 3.
[12] – نفسه؛ 55 وهذه الشواهد هي المقاطع الشعرية لكل من المجاطي، ومسلم بن الوليد، والجوهري، وخليل حاوي. – ظاهرة الشعر المعاصر 262-265.
[13] – نفسه.
[14] – نفسه. وديوان السياب؛ 1: 139.
[15] نفسه.