من أجل تجديد النخب، وتحديث هياكل الدولة ودعم البناء الديمقراطي وترسيخ التدبير المحلي الجيد وتعزيز سياسة القرب وتحقيق التنمية الجهوية تفعيل الجهوية يتطلب إرادة سياسية واضحة وصلاحيات حقيقية وموارد مالية كافية
جريدة الشمال – عزيز كنوني ( الجهوية )
تلك الكتابات تشتم منها رائحة البوح بنوع من “الخيبة” فيما تشهده تجربة الجهوية المتقدمة التي “طالما اعتبرت الإطار المناسب لتحقيق التنمية المنشودة ” والتي تم اعتمادها بنجاح في عدد من البلدان.
تساؤل العماري عن الحالة الراهنة لتجربة الجهوية التي أقرها بصورة واضحة دستور 2011، يمكن أن تشتشف منه نبرة من “عدم الارتياح”، بالرغم من تأكيده ميله الدائم إلى التفاؤل، وتذكيره بنزوعه الدائم إلى “زرع بذور الأمل ” في كل ما يحيط به من “تقلبات وتحولات”.
ثم إن حديثه عن الجهوية الموسعة “كما كان يتصورها” مع المواطنات والمواطنين المغاربة، من خلال النقاشات والقوانين واللجان الاستشارية، والجهوية التي يعيشها بعد سنتين من الممارسة الفعلية، يوحي بأن في الأمر شيئا ما، يجعل رئيس الجهة يبوح بأن ما بين النظرتين إلى نظام الجهوية الموسعة، “مفارقة تكاد تشبه مفارقة “الخيال للحقيقة”، و”الحلم للواقع” !
قد يستشف من هذا الكلام، ما يؤكد شعور الرئيس العماري بـ “الخيبة”، في التعامل مع القانون التنظيمي للجهات من موقع عدد من الاختصاصات الذاتية بهدف تمكين هذه الجهات من القيام بدورها الدستوري في تحقيق التنمية الجهوية ، اقتصاديا واجتماعيا، وثقافيا، وعمرانيا، وفي إنجاز المشاريع التنموية المحلية في مجالات التنمية القروية والشغل والنقل والتجهيزات الأخرى، التي، بدونها، لن يتبلور، على أرض الواقع، مفهوم الجهوية الموسعة التي تنبني على اللامركزية، بعد أن فشلت المركزية العنيفة المطبقة على المغرب منذ الاستقلال، في تحقيق التنمية الشاملة، باستثناء قطاعات اقتصادية خاصة، استفادت منها، على الخصوص قطاعات “فئوية” ضيقة، من المغاربة، على حساب الجماهير الواسعة في الحواضر والبوادي، حيث الفقر والخصاص والعوزوالهشاشة علامات صارخة تستنطق كل ذي ضمير حي.
وكان المؤمل أن يستدرك المسؤولون هذا الوضع، عبر تطبيق نظام الجهوية الموسعة، وفق نص الدستور، وخاصة الفصلين 86 و 146، منه، وتوجيهات جلالة الملك الواردة في خطب جلالته خاصة الخطاب الملكي بمناسبة تنصيب اللجنة الاستشارية الجهوية (3 يناير 2010) الذي أوصى بأن تكون الجهوية نابعة من خصوصيات المغرب، غير مقلدة ولا مستنسخة، ومتشبثة بمقدسات الأمة، وثوابتها، وغير مختزلة في مجرد توزيع جديد للسلطات بين المركز والجهات، وأن تعتمد التناسق والتوزيع في الصلاحيات وانتهاج اللاتمركز الواسع، في نطاق حكامة ترابية ناجحة وقائمة على التناسق والتفاعل.
وفي خطاب ثورة الملك والشعب سنة 2011، أكد جلالته أن تحديث ودمقرطة هياكل الدولة، بقدر ما يتجسد في توزيع الدستور الجديد للسلطات المركزية وفق مبدأ فصل السلط، فإنه يتجلى بصفة أقوى في إرساء الجهوية المتقدمة القائمة على إعادة توزيع سلط وإمكانات المركز على الجهات لإرساء دعائم الورش الهيكلي الكبير للجهوية المتقدمة، التي اعتبرها جلالته ‘ثورة جديدة للملك والشعب” .
وجاء الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى 33 لانطلاق المسيرة الخضراء المظفرة حاملا لمشروع جهوية موسعة تندرج ضمن البناء الديمقراطي الحداثي للمغرب و النهوض بالجهوية في إطار الحكامة الجيدة والديمقراطية المحلية، حيث أكد جلالة الملك قراره السامي بفتح صفحة جديدة في نهج الإصلاحات المتواصلة الشاملة عبر إطلاق مسار جهوية متقدمة ومتدرجة، تشمل كل مناطق المملكة، وفي مقدمتها جهة الصحراء المغربية.
وشدد جلالته على أن مشروع الجهوية إصلاح هيكلي عميق يقتضي جهدا جماعيا لبلورته وإنضاجه، وورش واعد لترسيخ الحكامة المحلية الجيدة وتعزيز القرب من المواطن وتفعيل التنمية الجهوية المندمجة، الاقتصادية والا جتماعية والثقافية.
ومن أجل ذلك، فإن هذا الإصلاح يجب أن يقوم على مرتكزات الوحدة والتوازن, والتضامن. فأما الوحدة, فتشمل وحدة الدولة والوطن والتراب، التي لا يمكن لأي جهوية أن تتم إلا في نطاقها. وأما التوازن, فينبغي أن يقوم على تحديد الاختصاصات الحصرية المنوطة بالدولة مع تمكين المؤسسات الجهوية من الصلاحيات الضرورية للنهوض بمهامها التنموية، في مراعاة لمستلزمات العقلنة والانسجام والتكامل. ويظل التضامن الوطني حجر الزاوية, في الجهوية المتقدمة، إذ أن تحويل الاختصاصات للجهة يقترن بتوفير موارد مالية عامة وذاتية، في إطار مناطق متكاملة اقتصاديا وجغرافيا ومنسجمة اجتماعيا وثقافيا.
يبدو من هذه المعطيات، أن الأرضية كانت ممهدة، على مستوى المفهوم العام للجهوية وسبل تحقيقها إن على المستوى التشريعي أو التنفيذي، شرط أن تتوفر الإرادة السياسية ويحصل تحول في عقليات السلطات المركزية والجهوية، وهو ما يبدو أنه لا زال “يتمنع”، ما يبرز نوعا من الصراعات الخفية حول الاختصاصات التي تأتي ولا تأتي !……
ولعل هذا ما أشار إليه رئيس جهة طنجة تطوان الحسيمة ، حين أكد أن “تنزيل” “جوهر” النظام الجهوي، المتمثل في الاختصاصات الذاتية، يصطدم بعراقيل صلبة . وأورد الرئيس العماري مثلا على ذلك، حين أشار إلى أن من بين تلك الاختصاصات جذب الاستثمارات. إلا أن الواقع يفرض على الجهة أن لا تتخطى إجراءات البحث والإقناع والحث، لتبقى خارج التفعيل الجهوي للمشاريع المحصلة، الذي تتم معالجتها داخل الهياكل واللجان المركزية والجهوية والمحلية التي تتولى البث والترخيص والتتبع .مثال صارخ ثان، ويخص النقل الطرقي غير الحضري بين الجماعات الذي جعله التنظيم الجهوي ضمن اختصاصات الجهات، إلا أنه لا يزال تحت تصرف وزارتي الداخلية والتجهيز.
كتابات إلياس العماري التي طلعت نهاية الأسبوع الماضي، لمحت إلى وجود “مفارقة صارخة” بين الواقع والنصوص إذ أنه، بعد سنتين من “الممارسة” الجهوية ، يقول رئيس الجهة، لا تزال قطاعات مهمة تتصل بحياة المواطنات والمواطنين، تنتظر إجراءات إدارية بسيطة لا تحتاج إلى إجراءات “معقدة” ولا إلى ميزانيات فرعونية !
وهو ما أشار إليه السيد العماري حين شدد على “التعقيدات” و “الغموض” التي تتسع دائرتها لتزيد من تعميق أزمة الموارد المالية للجهات، التي تعتمد في مجملها على تحويلات الحكومة من المخصصات المالية من الميزانية العامة للدولة ومستخلصات بعض الرسوم الضريبية. ما يتسبب في إضعاف الموارد المالية للجهات واتساع حاجيات ومتطلبات المواطنات والمواطنين.
فما الذي حدث ويحدث؟
هل تشعر الحكومة بخطورة أن يفقد المواطنون الآمال العريضة التي علقوها على نظام الجهوية المتقدمة أو الموسعة، من أجل تحريك التنمية الجهوية بهدف خلق الثروة ، عبر سياسة القرب التي تستهدف أيضا تجديد النخب وإبراز المواهب والريادات الجهوية، من أجل دعم البناء الديمقراطي، وتحقيق العدالة المجالية، والاستقرار السياسي، وتعبئة الموارد البشرية الجهوية التي تتحلى بالكفاءة والطموح، وإنجاح النموذج الجهوي المغربي، وإعادة ثقة المواطنين، خاصة فئات الشباب، في السياسة والسياسيين. وهو أمر يعتبر ذا أهمية بالغة بالنسبة للمجتمع المغربي الذي أصبح العزوف يطبع موقفه من الانتخابات ، جماعية كانت أو تشريعية، لضعف ثقته في العملية الانتخابية التي لا تقدم له أجوية مقنعة عن سؤال المواطنة، والعدل، والحرية، والمساواة، والتنمية، والكرامة، الذي يطرحه منذ سنين، وبإلحاح !
حقيقة إن جهة طنجة تطوان الحسيمة، خطت خطوات موفقة في ما يخص تدبير شؤون المنطقة، بحس وطني وشعور بالمسؤولية، ولكن الرئيس العماري يؤكد أن هذا الأمر هو نتاج مجهود جماعي لمختلف مكونات مجلس الجهة، وثمرة غيرة المنتخبين على جهتهم وأقاليميهم وجماعاتهم بالرغم من قلة الإمكانات االبشرية والمالية الموجودة. وبالتالي فإن أي تباطؤ من جانب المسؤولين المركزيين في تنفيذ بنود التنظيم الجهوي كما نص عليه الدستور، قد ينال من طموح المسؤولين عن تدبير شؤون الجهة، ، ومن تفاؤلهم وطموحهم.
فهل ستستجيب الحكومة وتضع الجهوية على رأس أولوياتها لأن الجهوية رافعة لعملية التنمية، ولأن المواطن هو المحور الأساسي لهذه العملية التي تستدعي تعبئة موارد وإمكانات بشرية ومادية ملائمة، اعتبارا لأن الجهوية فضاء اقتصادي واجتماعي مؤهل لوضع برامج ومشاريع التنمية الهادفة إلى تعزيز الممارسة الديمقراطية وتعزيزها جهويا...