“الحركة التلاميذية بإمزورن بين المسار والانكسار”
جريدة الشمال – أسامة الزكاري (كتابات في تاريخ منطقة الشمال)
الإثنين 25 شتنبر 2017 – 11:31:13
فالتاريخ الحاضر يظل محفوظا في صدور صانعيه، وعلى المؤرخ أن يستنفر جهوده للغوص في أعماق هذه الصدور، بحثا عن التفاصيل، وتجميعا للجزئيات، وتحقيقا للأعلام، ثم استثمارا للنتائج. لا يتعلق الأمر بكتابة سير-ذاتية، بقدر ما أنها اختراق منهجي للإطار المرجعي الناظم للتوثيق في الكتابات التاريخية التقليدانية التي حصرت “الوثيقة” في إطارها المادي المباشر، متناسية أن حركية المجتمع تصنعها مبادرات ومواقف ورؤى من الصعب، بل من المستحيل أحيانا، التوثيق لها ماديا بالتدوين و بالتأليف، مثلما هو الحال مع قضايا التراث الرمزي، وتاريخ الذهنيات، وتراكم المواقف السياسية، وتدافع الحركات الاحتجاجية، إلى غير ذلك من الظواهر المرتبطة بردود أفعال آنية لا تعطي لأصحابها الفرصة ولا القناعة بضرورة الكتابة عنها في حينها وفي خضم تفاعلاتها المباشرة. لذلك، فإن الذاكرة الفردية المتقاطعة مع مواقف جماعية ناظمة، تظل خزانا الاستثمار العلمي، بعد إخضاعها لقواعد النقد التاريخي المعروفة ولأدواتها الإجرائية في التجميع وفي التفكيك حسب ما هو معروف لدى المتخصصين.
في سياق الاهتمام بحفظ هذه الذاكرة الجماعية بالنسبة لنخب منطقة الريف عموما، ومدينة إمزورن تحديدا، يندرج صدور كتاب “الحركة التلاميذية بإمزورن بين المسار والانكسار”، للأستاذ محمد بلمزيان، سنة 2016، في ما مجموعه 155 من الصفحات ذات الحجم الكبير. والعمل، تجميع لمظاهر الخصب في إحدى أنبل تجارب الحركات الاحتجاجية التي عرفتها منطقة الريف بشمال المغرب خلال فترة ثمانينيات القرن الماضي، فكان لها دور بارز في الارتقاء بالوعي الجماعي لنخب المرحلة وفي إنشاء “مدرسة موازية” للتكوين السياسي والنقابي والحقوقي والثقافي، غطت تأثيراته اللاحقة أجزاء واسعة من عموم بلاد المغرب. ولقد أجمل المؤلف معالم هذا الأفق العام، في كلمته التقديمية، عندما قال: “… لكون الذكرى عربونا على الوفاء، وتصديا للذاكرة لكي لا تصاب بالصدأ في يوم من الأيام، وصون هذا الصرح الشامخ وتجديده دوما، كمعلمة تاريخية، كل لبنة من بنياتها تلخص موضوعا لحكاية قائمة، وهي تعكس مرحلة تعتبر من أخصب المراحل العمرية المتسمة بالعنفوان والحماس، التي يمكن أن يعيشها الإنسان خلال مسار عمره تقريبا، والتي تحفظ خلالها الذاكرة كل صغيرة وكبيرة، لا تدعها تمر دون أن تخصص لها حيزا في سجلها الذهبي، عبر استرجاع لوحات من تفاصيلها مع محاولة ربطها بسياقها التاريخي والظروف السياسية التي أنتجتها وصاحبتها، ومضاعفاتها على الحركة التلاميذية بشكل خاص، وعلى الحركة الاجتماعية بالمنطقة بشكل عام، وهي محاولة عكفت عليها لمدة من الزمن، حاولت أن أستعيد فيها شريط هذه الأحداث قدر المستطاع، وحسب ما بقي عالقا بذاكرتنا وذا قيمة رمزية مؤثرة، حول هذه الحركة الشبابية بما لها وما عليها، مركزا بالأساس على أهمها دون أن يعني هذا إهمال بعض المحطات الأخرى، أو استصغارا من حجمها وآثارها على هذه التجربة النضالية ككل، مع الإشارة في الأخير إلى تداعيات هذه الحركة وما شكلته مستقبلا من روافد مهمة لتأسيس وعي جمعوي وسياسي بإمزورن خاصة وبالمنطقة عامة…” (ص. 4).
في هذا السياق، اهتم الكتاب بتقديم غزارة استثنائية في المعطيات المرتبطة بالسياق العام لبروز الحركة التلاميذية بإمزورن وتطوراتها السريعة لسنوات ثمانينيات القرن الماضي، وخاصة خلال المرحلة الممتدة بين سنتي 1984 و1987. وقد حرص المؤلف على تقديم تفاصيل حول ظروف ميلاد النواة الأولى لهذه الحركة الاحتجاجية في علاقتها بأداء الحركات الاجتماعية المحلية والوطنية، مركزا على إبراز الجانب السياسي والثقافي للحركة في إطار صراع القيم، وآثار ذلك على استنبات الوعي السياسي والثقافي للفاعلين.

وقد عزز عمله بإدراج شهادات لعدد من الفاعلين المباشرين في الوقائع. يتعلق الأمر بكل من أحمد الشريف، وعبد الحافظ الأزرق، ومكي الحنودي، وعبد الحكيم أمغار، ومحمد مخلص. كما خصص حيزا لإدراج ملحقين منفصلين، الأول خاص بالإرهاصات الأولى للعمل الجمعوي بإمزورن، والثاني بمعالم الدخول المحتشم للدولة لمرحلة العدالة الانتقالية عند بداية تسعينيات القرن الماضي.
وبذلك، استطاع محمد بلمزيان تقديم عمل غير مسبوق، لا شك وأنه سيوجه اهتمام الباحثين في قضايا الزمن الراهن، وتحولات الحركات الاحتجاجية بمنطقة الريف بشمال المغرب، من أجل توفير الزاد الضروري لفهم حقيقة ما جري/وما يجري. ولعل من عناصر القوة في العمل، ابتعاد المؤلف عن الاطمئنان ليقينيات الأحكام النوسطالجية الحالية وعن إضفاء البعد الأسطوري على المواقف وعلى الرؤى وعلى المبادرات، في مقابل الاهتمام بتجميع المعطيات التي صنعت التجربة وأينعت عطاءها المتميز، من دون إغفال عوامل الانكسار التي أدت إلى تراجع تأثيرها في سياق تطورات بنيوية، منها ما هو مرتبط بطبيعة أداء الحركة ذاتها، ومنها ما هو مرتبط بأداء الحركات الثقافية الأمازيغية وتناقضاتها العميقة عبر مجمل أصقاع خريطة البلاد. ولا شك أن الانكباب الجدي لتشريح مضامين الكتاب، بعيدا عن قيود “الذاكرة الجماعية” وقريبا من رحابة “الذاكرة التاريخية”، يساهم في تقديم القراءات النقدية الكفيلة بإعادة تقييم السياقات والتأصيل لشروط تفسير الكثير من تحولات الخطاب الاحتجاجي بمنطقة الريف خلال زماننا الراهن….