مكانة مدينة القصر الكبير التاريخية “الحرية أساس الكتابة”
الجمعة 20 أكتوبر 2016 – 17:33:51
“البعيدون”.. نص روائي متميز أدخل صاحبه ومبدعه الأستاذ بهاء الدين الطود العالمية، وجعل منه أحد أبرز رواد رصيد الكتابة السردية الوطنية المعاصرة. وإذا كنا – في هذا المقام – لا ننوي الحديث عن هذا النص الروائي الشيق، مما سيشكل موضوع إحدى حلقاتنا المقبلة، فإننا نود – في المقابل – أن نفتح قوسا مقتضبا للحديث عن كتيب، صغير في حجمه لكنه وازن في قوته وفي جرأته، صدر سنة 2009، للأستاذ الطود، تحت عنوان “الحرية أساس الإبداع”، وذلك في ما مجموعه 24 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. والكتاب، في الأصل، تجميع لسلسلة مقالات كان الأستاذ الطود قد نشرها على صفحات جريدة “الخضراء الجديدة” خلال الفترة الممتدة بين سنتي 1995 و1997، وقام فرع اتحاد كتاب المغرب بمدينة القصر الكبير بانتقائها وبتجميعها في إطار إسهامه في فعاليات حفل تكريم المبدع بهاء الدين الطود من لدن هيئة المحامين بطنجة يوم 3 يوليوز من سنة 2009.
هي مقالات متفرقة في مضامينها وفي انشغالاتها، لكنها ناظمة لمجمل الأسئلة الثقافية التي سكنت المبدع الطود وأثمرت نص “البعيدون” سنة 2000، وبعده نص “أبو حيان في طنجة” سنة 2011. لقد نجح الأستاذ الطود في فتح نافذة مشرعة على قضايا الهوية والانتماء، واضعا أسس نظرية وتاريخية لتأصيل قيم الحداثة في التعاطي مع إشكالات الماضي ومع ثقل حمولاته التقليدانية التي لازالت – وفي الكثير من الحالات – تعيق مسار تدفق نهر التغيير والعقلانية والديمقراطية وسمو قيم الحرية والجمال والفن والإبداع.
تتداخل في هذه النصوص انشغالات بهاء الدين الطود بتتبع بعض مجالات انكسار الزمن الثقافي الوطني الراهن، مثلما عكسه نص “ملاحظة في الشكل تفضح الجوهر”، مع امتداد علاقاته وتكوينه الموازي مع سحر الشرق وخاصة أرض الكنانة مثلما عكسه نص “يوميات مصرية”، ثم مع الآفاق الكونية الرحبة مثلما عكسه نص “نزهة في أفكار روجي كارودي”، وأخيرا مع القيم الإنسانية العميقة التي راكمتها البشرية في سياق تطوراتها التاريخية الطويلة المدى مثلما عكسه نص “الحرية أساس الكتابة”. وفي كل هذه المستويات المتداخلة، ظل بهاء الدين مسكونا بملمح قوي ظل يجذبه إلى إجراء التقابلات الضرورية بين واقعه المحلي وبين دهشة اللقاء بالغرب وبالحضارة الغربية وبالتراكمات المعرفية لهذا الغرب. ولا شك أن هذا الملمح كان في حاجة إلى الاشتغال الإبداعي وإلى الاستثمار الإنساني وإلى التمثل التخييلي، الأمر الذي أثمر رواية “البعيدون” التي أكسبت صاحبها شهرة واسعة تجاوزت حدود الوطن.
لذلك، نرى أن أي قراءة نقدية لمتن رواية “البعيدون” لا تستقيم إلا بالعودة للتأمل في مضامين نصوص الأستاذ الطود ومقالاته التي عرفت طريقها للنشر سنوات قبل صدور الرواية. ويمكن القول، إن بهاء الدين الطود قد استطاع وضع الإطار الحاضن لمضامين روايته عبر تفكيك أبعاد هذا الإطار، سياسيا واجتماعيا وثقافيا، وهو التفكيك الذي نجح في توفير المادة الخام للاشتغال التخييلي الواسع الذي يشكل قطب الرحى في أي عمل إبداعي مجدد، ويكسبه قيمه الفنية والجمالية والإنسانية الضامنة للانتشار وللخلود. ولعلي أقارن – في هذا المقام – تجربة المبدع الطود مع تجربة الروائي السوداني الطيب صالح عند اشتغاله على نصه الروائي الرائع “موسم الهجرة إلى الشمال”، أو مع تجربة الروائي سهيل إدريس في نصه الخالد “الحي اللاتيني”.
هي أعمال سعت إلى إعادة طرح الأسئلة الثقافية المهيكلة لنظرة الأناة المبدعة تجاه الآخر الأوربي، بما حملته هذه النظرة من عناصر التشظي والدهشة والاضطراب والنكوص، وقبل ذلك، العودة لطرح الأسئلة المغيبة داخل بنية اهتماماتنا الثقافية والفكرية المتوارثة والسائدة.
وإلى جانب هذا البعد الموجه لنسق الكتابة الإبداعية لدى المبدع بهاء الدين الطود، فكتاب “الحرية أساس الكتابة”، يساهم في التوثيق لخصوبة المشهد الثقافي، من خلال أسئلته المقلقة وجرأته الواضحة. هي اهتمامات فردانية، لا شك أن تجميع خلاصاتها يشكل مدخلا لكتابة تحولات التاريخ الثقافي المحلي من خلال سير نخبه وأعلامه ومبدعيه وكتابه وفنانيه.
لا يتعلق الأمر – في هذه النصوص – بكتابة تسجيلية خطية، ولا بسرد كرونولوجي لتقلبات حياة المؤلف، ولكنها عبارة عن استرجاع عميق لمحطات من ذاكرة الكاتب، متباعدة زمنيا عبر عمر المؤلف وجغرافيا عبر الأصل المغربي والعمق المصري والامتداد الأوربي. باختصار، فالأمر يتعلق بنقاط الضوء المشعة لذاكرة كاتب ومبدع يحسن التقاط تفاصيل “اليومي” وجزئياته المركبة، قصد تحويلها إلى أرضية للتأمل وللتفكيك في الخطوة الأولى، ثم مجالا رحبا للتمثل وللاستثمار التخييلي والإبداعي في المرحلة الثانية. ولا شك أن الانكباب الجدي لتجميع جميع نصوص الأستاذ بهاء الدين الطود المنشورة هنا وهناك، وخاصة منها تلك المرتبطة بمرحلة تسعينيات القرن الماضي، ستوفر للباحثين وللمهتمين فرص رسم عتبات اختراق عوالم بهاء الدين الطود العجيبة التي صنعت/ وتصنع سيرته الإبداعية الحالية.