الحكيم بواريق في “دوائر الدهشة”
الخميس 26 ماي 2016 – 21:59:34
جذب سحرُ القص القصير جدا، هذا الجنس الأدبي العصيّ والممتع في الآن نفسه، عددا من المبدعين والكتّاب المغاربة. ونتيجة لهذا الإقبال اللافت والجذب المتزايد، فإن المكتبة الأدبية في المغرب تزدان، كل سنة ومنذ أزيد من عقد، بعدد المجموعات المنتمية إلى هذا “الشكل من التعبير الأدبي البرقي السريع والمثير”، كما قالت الناقدة والأديبة نادية الأزمي (في كتابها “البرق وحلم المطر.. قراءات في القصة العربية القصيرة جدا”: ص 05)؛ وهو الإقبال الذي يلمسه أيضا المتتبع للحركة النقدية في بلادنا والمتمثل في إقبال الدارسين والباحثين على إنجاز دراسات وأبحاث نقدية نظرية وتطبيقية حول القص القصير جدا. وقد صدرت، ضمن سلسلة منشورات غاليري الأدب بالدار البيضاء منذ أشهر قليلة، مجموعة “دوائر الدهشة” للأديب القاص حسن بواريق.. هنا، في هذه المقالة وقفة مع هذه القصص القصيرة جدا المدهشة، ومع صاحبها الأديب المتألق الحكيم السي حسن.. بطاقة عبور

ومما جاء في باب السين.. السر: إن هذا الإجماع، الذي استطاع السي حسن أن يحققه والمتمثل في كسب رضا الناس من المعارف والأصدقاء من مختلف الأعمار والمواقع الجغرافية داخل المغرب وحتى خارجه، يكمن في سر واحد لا ثاني له؛ وهو: الحكمة البالغة التي فطره الله عليها في مد حبال التواصل بين كل من يعرفه أو تربطه به صلة في وقت معين.
وعلى ذكر هذه الخصلة / السر، فقد اختار أصدقاء الرجل ومحبّوه أن يطلقوا عليه لقب “الحكيم”؛ فلا يكاد تخلو تدوينة من التدوينات التي يوقعها على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي (فايسبوك) أو غيره من المنتديات والمواقع الافتراضية التي دأب الرجل على الحضور والمشاركة فيها تخلو من تصريح أحد هؤلاء المحبين والمعارف بهذا اللقب، الذي أشهد أن الرجل أهلٌ له عن جدارة واستحقاق. ومما جاء في باب النون.. والقلم وما يسطرون: راكم حسن بواريق، خلال مسيرته الأدبية، تجربة متألقة في الكتابة. ويتجلى هذا التراكم الإبداعي المتألق، الذي حققه الحكيم في جنس القصة القصيرة جدا، من خلال النصوص العديدة التي حرص على نشرها طيلة سنوات متوالية في عدد من المواقع والمنتديات؛ فضلا عن أن لحسن ثلاثة إصدارات مشتركة (حصاد الغاليري 2014، وكتاب غاليري في شعر الهايكو، وأنطولوجيا القصة القصيرة جدا)، وهو خوّل له أن يحظى باهتمام لافت من لدن القراء.
ومن ثم، فإنه كان من الضروري أن يصدر السي حسن مجموعة مستقلة في هذا الجنس الجميل والصعب؛ وهو ما تحقق بعد أن أطلق “دوائر الدهشة” ضمن منشورات غاليري الأدب بالدار البيضاء منذ أشهر قليلة. كما أن الأديب والقاص حسن بواريق يعد، حاليا، للنشر مجموعة شعرية على شكل ومضات.
“دوائر الدهشة”.. طلقاتٌ صامتةٌ وباروديا وحلمٌ
أحببت أن أتحدّث، هنا، عن المكونات الفكرية / الموضوعية والخصائص الفنية / الجمالية في القصص القصيرة جدا للسي حسن، من خلال مجموعة “دوائر الدهشة” التي تقع في 56 صفحة من القطع المتوسط، التي تتضمن 45 قصة قصيرة جدا متفاوتة في الطول والقصر بين سطر وبين نصف السطر وبين 11 سطرا.. من خلال القراءة المتأنية لنصوص هذه المجموعة، يتضح أن الأستاذ حسن بواريق يستند في كتابته إلى خلفية ثقافية متينة واختيار نقديّ محدد، إذ تتوزع تيمات هذه القصص القصيرة جدا ما بين ما هو سياسي وبين ما هو اجتماعي. ويتمثل البعد السياسي داخل هذه النصوص في الشطط في استعمال السلطة وقمع المتظاهرين والمحتجين المطالِبين بالكرامة والحقوق العادلة والعيش الكريم، من قبيل ما ورد قصة (شهادة الحياة): “تقدم لدى الموظف، طالبا منه تصحيح بيانات دوّنت خطأ في كناش الحالة المدنية: عفوا، سيدي، إن المتوفى هو والدي ولستُ أنا. – إذن، أحضر شهادة الحياة من الشباك الثاني تثبت ذلك. بالشباك الثاني، أدلى ببطاقة تعريفه طالبا الشهادة. اطلع الموظف على البطاقة، تصفح كناشا أمامه وقال: آسف، سيدي، أنت متوفى منذ يومين، حسب البيانات المتوفرة لديّ” (ص: 40). وفي قصة (جدول الضرب): “استشاط المدير العام غضبا حين علم بتذمر السكرتيرة الحسناء من الفرّاش، الذي داعب كلبتها المدللة.. استدعى المدير الإداري وبخه وضربه… هذا الأخير عرج على مكتب رئيس الموظفين شتمه وضربه.. واستمرت عمليات الضرب في متواليات رياضية تنازليا عبر السلم الإداري.. والناتج اثنان.. على مكتب القاضي الشرعي الذي أشر في نفس الوقت على وثيقة زواج السكرتيرة الحسناء من المدير العام ووثيقة طلاق الفراش من زوجته” (ص: 41). وفي قصة (فلاش باك 1)، التي صدّرها الكاتب بعتبة أو استهلال قصير دوّن فيه: (حدث هذا في أحد أيام سنة 1981)، يقول: “الرضيع يبكي، الأب يسرع لإحضار علبة حليب من أقرب صيدلية. خرج… ولم يعد.. صار الرضيع رجلا وعلبة الحليب لم…” (ص: 46). وفي قصة (رصاصة في الذاكرة) التي كتبت من وحي أحداث 23 مارس 1965: “(باراكا من الويسكي راه الشعب كيبكي)… شعار تصدح به حناجر الجماهير الغاضبة، امتزجت دموع الأعين بدموع القنينات في تفاعل رهيب.. أرعدت السماء.. أبرقت.. أمطرت وابلا من الرصاص” (ص: 50)… وغيرها من الأمثلة التي تحفل بها هذه النصوص المضمنة في المجموعة. أما البعد الاجتماعي، فيحضر في هذه النصوص الجميلة من خلال جملة من المظاهر والتجليات أبرزها: تردي الخدمات الصحية وتدنيها (قصة “خدمة طبية”: ص 45)؛ وبطالة الخريجين وقمع المحتجين المطالبين بالحق في الشغل (قصة “الحَجّاج أمام القبّة”: ص 39، وقصة “فلاش باك 2”: ص 47)؛ والهجرة السرية وقوارب الموت (قصة “لقمان”: ص 37، وقصة “فلاش باك 4”: ص 49)؛ وجشع أرباب المعامل واستغلال اليد العاملة (قصة “شيء من الألم”: صص 53 – 55)؛ وغلاء المعيشة (قصة “احتجاج”: ص 23)؛ والتهميش وأزمة السكن وانتشار دور الصفيح (قصة “فلاش 3”: ص 48).. ولم تكن هموم الوطن (المغرب) وحدها هي ما يشغل الكاتب في نصوص هذه المجموعة؛ بل إن الحكيم تجاوز القضايا والهموم المحلية إلى انشغالات وقضايا عربية تهم الانبطاح العربي أمام الكيان الصهيوني (القضية الفلسطينية)، والبترودلار، والموقف العربي من القضايا العربية مثل ما نقرأ في قصة “نقطة” (ص: 18) وفي قصة “المقامة القصيرة” (ص: 51)… وغيرها من التيمات والتجليات الأخرى التي تنحاز إلى جانب المستضعفين في الأرض، سواء داخل الوطن أم خارج حدوده..
ومن ثم، فإن بواريق يعبّر عن مواقف ثابتة وجوهرية مما يجري أمام عينيه في الواقع والحياة وما يتفاعل معه على الساحة العربية والقومية من مختلف ألوان الطيف. وعلى الرغم من هيمنة مسحة الحزن، التي تتبدى – كما رأينا- في جملة من التمظهرات التي عالجت ذات إرهاصات حزينة؛ فإن بعض هذه النصوص لا يخلو من مسحة سخرية تجاه مواقف معينة ساخرة، من ذلك النوع المُر واللاذع الذي يضحك ويبكي في الآن ذاته أو ما يطلق عليه النقاد المتخصصون “الباروديا”، على اعتبار أن شر البلية ما يضحك؛ من قبيل ما ورد في قصة “تكريم” (ص: 19)، وفي قصة “احتجاج” (ص: 23)، وفي قصة “انضباط” (ص: 25)، وفي قصة “الحجاج أمام قبة البرلمان” (ص: 39)، وفي قصة “خدمة طبية” (ص: 45)… وإلى جانب السخرية، وظّف القاص حسن بواريق في نصوص “دوائر الدهشة” تقنية الحلم؛ ففي قصة “حلم”، ورد: “استيقظ متوجسا مهموما. طرق باب الكاف. أطل النابلسي مقطبا: “كرسيّك، يا ولدي، صار أسرة آدمية”” (ص: 16)، وفي قصة “حرية”: “جلس يتأمل الأزرقين. لاح له طيف حورية. قال للبحر: ضمني. احتواه شعاع لا زورديّ أعشى عينيه. فتحهما على يدّ تربت على كتفه، ووجه شامت لابن سيرين” (ص: 27). وفي قصة “خصاصة”، ورد: “كلما حاصره ضنكُ العيش، فرّ بمخيلته إلى آفاق أرحب يصير أميرا، يجلس على العرش، يوزع التبرعات، يكسي العاريات، ويطعم الجائعات.. اليوم، صار يستجدي الأحلام؛ فرصيده منها قد نفد” (ص: 42). كما استخدم بواريق في عدد من نصوص المجموعة تقنيات جمالية أخرى من قبيل: اللعب باللغة والرمز والخيال الجامح وغيرها من التقنيات الجمالية التي منحت لهذه النصوص الكثير من الألق والتوهج..
على سبيل التركيب
إجمالا، فإن الكتابة الإبداعية لدى حسن بواريق تتوخى الكشف والفضح وتعرية مختلف مظاهر الاختلال والنقص والزيف التي تعتري الواقع المعاش، موظفا تقنيات فنية عالية وذات جمالية.. أو لنقل إن الحكيم استطاع أن يجمع، بذكاء وإتقان كبيرين، في هذه الكبسولات القصصية بين البعدين الفكري والجمالي؛ وهو ما يمكن أن نرى فيه أنها طلقات صامتة مصوّبة بمهارة تجاه مختلف مظاهر الزيف والاختلال، كيفما كانت درجتها ومستواها.. وعليه، فإن “دوائر الدهشة” تؤكد مقولة تغلغل القصة القصيرة جدا في التربة الأدبية العربية، وأننا كسبنا مبدعا رزينا وعميقا نلمس معه مواقف جريئة وعميقة من الوجود والواقع. وبناء عليه، يمكن أن نقول مع الكاتب الفلسطيني د. يوسف حطّيني إن “القصة القصيرة جدا في المغرب تمدّ جذورا عميقة تجاه الواقع السياسي والاجتماعي الذي يعيش فيه المبدعون”(ضمن أنطولوجيا غاليري للقصة القصيرة جدا.. جيل جديد: ص 93)؛ وهو ما يتضح بجلاء في التجربة الإبداعية للحكيم القاص حسن بواريق، وتحديدا في قصص هذه المجموعة التي بين أيدينا الموسومة بـ”دوائر الدهشة”.