إن الحق في احترام الحياة الخاصة يعد من أهم حقوق الإنسان في المجتمعات الحديثة لما له من ارتباط وثيق بحرية الفرد، وما يترتب عليه من صون لكرامته واحترام لآدميته، مما دفع المشرع الجنائي المغربي إسوة بالتشريعات المقارنة إلى بسط حماية أكبر للحياة الخاصة، وهكذا تبرز الحماية القانونية للحق في الحياة الخاصة في الكثير من المقتضيات الجنائية من خلال الفصول 447-1 و 447-2 و 447- 3 نظرا لتعلقها بحق أصيل من حقوق الإنسان، لذلك أحاطه المشرع بالضمانات القانونية الجزائية الكفيلة بالمحافظة عليها من الأفعال غير المشروعة، بحيث يخول الرجوع إليها والاهتداء بأحكامها لضمان سلامة الشخص في أسرته وحرمة حياته الخاصة.
وتتعدد مظاهر الحماية الجنائية التي وفرها المشرع الجنائي المغربي للحياة الخاصة، سواء تلك التي وردت في القانون الجنائي كجرائم الاعتداء على الشرف أو الاعتبار الشخصي وإفشاء الأسرار المنصوص عليها في الفصول من 442 إلى 446 من ق.ج، أو جرائم الشطط في استعمال السلطة إزاء الأفراد، أو جرائم العرض وجرائم التحرش الجنسي من خلال القانون رقم 13-103 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء، أو تلك التي وردت في قوانين خاصة كالقانون المتعلق بالصحافة والنشر رقم 88-13 من خلال الفصول من 81 إلى 92 التي تتعلق بحماية الشرف والحياة الخاصة.
و يبقى أهم حق من بين هذه الحقوق التي أضفى عليها المشرع الجنائي المغربي حماية صارمة هو الحق في حرمة الحياة الخاصة للأفراد ، و قد سبقه إلى هذه الحماية المشرع الدستوري سنة 2011 من خلال الفقرة الأولى من الفصل 24 والتي نصت على أن: ” لكل شخص الحق في حماية حياته الخاصة، وهو ما ترجمته رؤية المشرع الجنائي المغربي من بعد من خلال الفصول السابق ذكرها 447-1 و 447-2 و 447-3
و في هذا الإطار صدر منشور لرئيس النيابة العامة السيد محمد عبد النباوي عدد 48 س/ ر.ن.ع بتاريخ 05/12/2018. و الموجه إلى المحامي العام الأول لدى محكمة النقض ، و الوكلاء العامين للملك لدى محاكم الاستيناف و وكلاء الملك بالمحاكم الابتدائية و المتعلق “بحماية الحياة الخاصة للأفراد في ظل القانون رقم 13-103 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء”.
و هذه النصوص أضيفت إلى مجموعة القانون الجنائي المغربي مؤخرا تتعلق بالحماية الجنائية للحق في حرمة الحياة الخاصة للأفراد، فبعد كثرة الفضائح و الجرائم الإلكترونية و غير الإلكترونية التي مست الحياة الخاصة ( قضية حمزة مون بيبي على سبيل المثال) و التي ساهمت فيها مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، و قد جاء هذا المنشور للتأكيد على التطبيق الصارم و السليم للقواعد القانونية، و الحرص على تنزيل مقتضياتها الرامية إلى حماية الحياة الخاصة للأفراد وفق ما كرسه دستور 2011 و حدده القانون الجنائي المغربي.
و من الحالات التي جرمها المشرع الجنائي من خلال النصوص الجديدة “منع التقاط أو تسجيل أو بث أو توزيع أقوال أو معلومات صادرة بشكل خاص أو سري دون موافقة أصحابها ( الفصل 447-1) و ما يمكن ملاحظته في هذه الحالة أن المشرع المغربي لم يشترط صراحة المساس بالحياة الخاصة للأفراد حتى يتم تجريم الفعل أو الأفعال السابقة، على عكس المشرع الفرنسي من خلال المادة 226-1 التي ربطت بين تجريم هذا الفعل و ضرورة أو اقتران الفعل الجرمي بالمساس بالحياة الخاصة للفرد، و هو أكدته محكمة النقض الفرنسية حيت “اعتبرت تسجيل الأقوال الصادرة بشكل خاص غير متحققة رغم قيام المشتكى به بتسجيل مكالمة هاتفية مع المشتكي قدمها إلى الشرطة القضائية لكون الفاعل لم يكن يهدف إلى المساس بالحياة الخاصة للمشتكي.”
و قد سبقت هذه النصوص الجديدة نصوص أخرى مجرمة للحرمة الحياة الخاصة للأفراد كالانتهاكات الصادرة من أفراد عاديين، فقد ورد في نص الفصل 441 من ق.ج على أنه: ” من دخل أو حاول الدخول إلى مسكن الغير، باستعمال التدليس أو التهديد أو العنف ضد الأشخاص أو الأشياء، يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وغرامة من مائتين ( 200 درهم) إلى مائتين وخمسين درهما ( 250 درهما)”.، ويتم تشديد العقوبة المقررة إذا ارتكبت ليلا أو باستعمال التسلق أو الكسر أو بواسطة عدة أشخاص، أو إذا كان الفاعل أو أحد الفاعلين يحمل سلاحا ظاهرا أو مخبأ.
أما بالنسبة للانتهاكات الصادر من أحد ممثلي السلطة فقد ورد فيها نص الفصل 230 من ق.ج، حيث جاء على أن ” كل قاض أو موظف عمومي، أو أحد رجال أو مفوضي السلطة العامة أو القوة العمومية يدخل، بهذه الصفة، مسكن أحد الأفراد، رغم عدم رضائه، في غير الأحوال التي قررها القانون، يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة وغرامة من مائتين إلى خمسمائة درهم…”.
و هو ما أكدته محكمة النقض في قرارها عدد 1826/3 الصادر بتاريخ 07/07/2011 ( ملف جنحي عدد 07/6/7293، مجلة محكمة النقض عدد 74، سنة 2012، ص: 89 )حيث جاء في حيثياته : “حيث ثبت أن عملية التفتيش للمنزل تمت خارج الوقت القانوني مما يكون معه الإجراء باطلا”.
ومن مظاهر الحماية الجنائية للحياة الخاصة أيضا هناك حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي، حيث غزت التكنولوجيا الحديثة والاتصال العالم، وحطمت الفواصل بين الحياة العامة والخصوصيات الفردية، إذ أصبحت المعطيات ذات الطابع الشخصي متاحة بواسطة هذه التكنولوجيا. ومع تنامي انتهاكات الحياة الخاصة للأفراد كان من الضروري أن تتحرك المنظمات الحقوقية للضغط على المشرع لفرض تشريعات تحمي الحياة الخاصة للأشخاص من التجاوزات و الانتهاكات وخرق بنك المعطيات الخاصة بالأفراد. وقد بادر المشرع المغربي إلى سن فانون يحمي حقوق الأفراد خلال العمليات التي تتطلب جمع المعطيات ذات الطابع الشخصي وهو قانون 08-09 المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي؛ وقد أقر هذا القانون مجموعة من العقوبات على الجهات التي لا تحترم المقتضيات والتشريعات المتعلقة بحماية المعطيات ذات الطابع الخاص، وتهم هذه المقتضيات العقوبات ذات الطابع الإداري وأخرى ذات الطابع الجنائي.
فالحق في حماية حرمة الحياة الخاصة محمي بالقوانين الدستورية و الجنائية، و قد رتب المشرع الجنائي المغربي سعيا وراء ضمان حماية أكبر للحياة الخاصة للأفراد جزاءات جنائية على ارتكاب أحد الأفعال الواردة في المواد السابقة خصوصا ما ورد في الفصول 447 – الفقرات الثلاث، حيث فرض عقوبات سالبة للحرية تصل إلى ثلاث سنوات حبسا، بغض النظر عن جنس الفاعل أو الضحية، و كيفما كانت الوسائل المستعملة في الاعتداء كالهاتف أو آلات التسجيل السمعي البصري أو الأنظمة المعلوماتية أو أي أداة أخرى. كما شدد المشرع الجنائي العقوبة في الأحوال المفصلة في الفصل 447-3 لتصل العقوبة الحبسية إلى خمس سنوات و غرامة من 5.000 درهم إلى 50.000 درهم إذا ارتكب الاعتداء من طرف الزوج أو الطليق أو الخاطب أو أحد الأصول أو الكافل أو شخص له ولاية أو سلطة على الضحية أو مكلف برعايتها، أو ضد امرأة بسبب جنسها أو ضد قاصر.
و أخيرا يمكن القول أن النص القانوني في مجال حماية حرمة الحياة الخاصة متقدم جدا ، يبقى فقط على النيابة العامة تحريك المساطر القانونية اللازمة للحد من انتهاكات حرمة الحياة الخاصة للأفراد في ظل الانتشار الواسع و الفوضوي لوسائل التواصل الاجتماعي التي يوما بعد يوم تزداد جرأتها و مبالغتها في اختراق الحياة الخاصة دون مبالاتها بالقوانين و الأنظمة الجاري بها العمل.
د. أحمد الجيراري