الدكتور الباحث إبراهيم بن الصديق رئيس المجلس العلمي بطنجة سابقا
جريدة الشمال – إعداد : محمد القاضي (بن الصديق )
الجمعــة 09 مــارس 2018 – 11:48:28
•هذه السلسة من العلماء والمفكرين والأدباء والمثقفين الذي أناروا لنا الطريق في مجال البحث والدراسة، بما كتبوه من مؤلفات ودراسات ومواضيع، كان لها الصدى الطيب في الساحة الثقافية المغربية والعربية، فمنهم من انتقل إلى جوار ربه، ومنهم مازال على قيد الحياة. ولكن أفكارهم وآراءهم وإنتاجهم العلمي والفكري والثقافي سيبقى حيا تتوارثه أجيال وأجيال، كما عاشت أفكار من سبقوهم. وقد ارتأيت أن أخصص لكل “عالم” بعد أن أعرف به، ملخصا مركبا على شكل حوار أتناول فيه خمسة أو ستة فصول مركزة على جميع قضاياه المعرفية تقريبا، إنها رحلة فكرية نجول خلالها عبر محطات معرفية مختلفة…
ينتمي إلى أسرة عريقة استوطنت مدينة طنجة منذ عقود من الزمن، اشتهرت بالعلم والتفقه في الدين والإفتاء، وخدمة الحديث النبوي الشريف حفظا ودراسة وتعليما، شكلت مدرسة قائمة بذاتها في المغرب، فنالت شهرة واسعة في هذا المجال سواء على الصعيد المغربي أو العربي.
الدكتور إبراهيم بن الصديق وجه من وجوه الفكر الإسلامي، وأحد العاملين المخلصين في حقل الثقافة الإسلامية. أستاذ محاضر، وباحث (ومحقق) وداعية وخطيب. معروف بجديته وتفانيه في خدمة الإسلام والمسلمين علما وتوجيها وإرشادا وغيرة.
امتهن التدريس منذ ثلاثة عقود من الزمن كون خلالها أجيالا كثيرة في ميدان الثقافة الإسلامية. كما أشرف على العديد من الرسائل الجامعية لطلاب مغاربة وعرب، من مصر والإمارات العربية والسعودية (ماجستير ودكتوراه). وكان لا يبخل بتوجيهاته ونصائحه وإرشاداته على كل من قصده طلبا للعلم والمعرفة، أو مسترشدا بمنهجيته وخبراته في مجال البحث والتحقيق.
شارك في العديد من اللقاءات والندوات العلمية، كما حاضر في مدن مغربية وعربية.
كان أستاذا للتعليم العالي لمادة علوم الحديث بكلية أصول الدين بتطوان، كما درس بدار الحديث الحسنية بالرباط.
وكان رئيس المجلس العلمي بمدينة طنجة، ورئيس جمعية التوعية الإسلامية منذ سنة 1982م بنفس المدينة. نشر العديد من الدراسات والأبحاث في مجلات علمية متخصصة كمجلة دار الحديث الحسنية، ومجلة دعوة الحق وغيرها… من أشهر مؤلفاته المطبوعة: علم علل الحديث من خلال كتاب (بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام) لابن القطان الفاسي. طبع بأمر من جلالة الملك الحسن الثاني في جزءين، ونماذج من أوهام المشارقة في الرواة المشارقة، والجرح والتعديل في المدرسة المغربية للحديث في جزءين. مقالات ومحاضرات في الحديث الشريف وعلومه. و له أعمال أخرى تنتظر النشر.
توفي بالرباط يوم الخميس 6 صفر 1424هـ موافق 10 أبريل 2003م ودفن بطنجة بالزاوية الصديقية.
علم “العلل” بالأندلس:
يرى الدكتور إبراهيم بن الصديق أن للأندلسيين والمغاربة طبيعة خاصة في الناحية العلمية، تتميز بخاصيتين:
الأولى: حرفيتهم في تطبيق النصوص العلمية، والتزامهم بالقواعد – التي تكون عادة أغلبية – وعدم تصرفهم فيها، إلى حد الجمود عليها. ومظهر هذه الحرفية يتجلى في أمور كثيرة منها على سبيل المثال:
أ – بالنسبة إلى الأصول الاعتقادية، التزموا اتجاها واحدا فيما يتعلق بالصفات، من التنزيه والتأويل الطفيف المتمشي مع ما كان عليه السلف بالمدينة المنورة خاصة، والمشي على مقتضى اعتقادهم في النبوات. وما يتعلق بالمعاد من إثبات القدر. وما إلى ذلك حتى أنهم كانوا يلقنون أولادهم في الكتاتيب أن يقولوا بعد التشهد الأخير: “وأشهد أن الصراط حق وأن الميزان حق وأن الجنة حق”.. وما زال ذلك متوارثا إلى الآن في بعض الجهات المغربية، ومنذ اعتنقوا المذهب الأشعري في الاعتقاد وهم متمسكون به إلى الآن.
وهكذا تجدهم أبعد الناس عن التأويلات وتمطيط النصوص والإصغاء إلى النظريات الفلسفية في الاعتقاد. فقلما تجد في المغاربة القدري والمعتزلي والمرجئي، والشيعي الغالي والناصبي الغالي، وغير ذلك من المذاهب والنحل والآراء التي لا تتفق مع مذهب أهل السنة ومعتقدهم.
والمحاولات التي قامت للخروج عن هذا الاتجاه إما لم يكتب لها البقاء رغم مظاهر القوة التي صاحبتها كنظرية عاصمة الأمام عند الموحدين وغيرها. أو أميتت في المهد كمحاولة محمد عبد الله بن مسرة القرطبي المتوفي سنة 319هـ، لتكوين مذهب في العقائد من خليط من الفلسفة والاعتزال والتصوف. فقام الأندلسيون وقاوموا أتباعه إلى أن تغلبوا عليهم فاستتابوهم وأحرقوا كتبهم. حتى أن الباحثين لم يتمكنوا من الوقوف على حقيقة مذهبه بسبب استئصال كتبه وكتب أتباعه.
ب – بالنسبة إلى الفروع: تصرفوا في المذهب المالكي الغني بالأصول والقواعد المرنة والخصبة، داخل إطار محدد ومحدود من أقوال ابن القاسم وأصبغ وأشهب وسحنون ومن بعدهم من فقهاء المذهب، ولم يخرجوا عليها حتى استبعدوا في كثير من الأحيان الاجتهاد وفق أصول المذهب وقواعده فيما ينص عليه هؤلاء وتكلفوا التخريج على أقوالهم. والقياس على أقيستهم وهو ما وقع الاتفاق على منعه في أصول الفقه، مما جعل الفقه المالكي الذي أبلوا البلاء الحسن في خدمته عبارة عن جملة أقوال، وتخريجات على تلك الأقوال واستظهارا لأقوال، وترجيحات بين أقوال، دون التقيد بقاعدة أو دليل، وهذا مشاهد وملموس لا ينازع فيه فقيه منصف.
ج – بالنسبة إلى علوم الحديث: تمسكهم – بمثالية تامة – بمفاهيم العدالة والضبط في رواة الحديث إلى حد أن فقدوا المرونة المطلوبة في ناقد الحديث، حيث نجد أغلب النقاد المشارقة يتوخون الهدف من وراء اشتراط العدالة والضبط في راوي الحديث، وهو تأمين صدقه فيه وأداؤه على وجهه. فإذا تحققت لهم هذه الغاية تساهلوا إلى حد كبير فيما كبير فيما عدا ذلك من النظر إلى خصوصيات الراوي المذهبية والسلوكية.
وبهذه المثالية التي وقف المغاربة عندها، جرحوا رواة الحديث بالهفوات التي لا يخلوا منها بشر. وقد بينت ذلك بتفصيل في بحثي: “الجرح والتعديل في المدرسة المغربية للحديث”.
وأغرب مثال لذلك مما لم يذكر هناك: أن الحافظ المصري الكبير عبد الغني ابن سعيد الأزدي والذي اتفق أئمة الحديث ونقاده على أنه ثقة مأمون حافظ متقن، لا يغمز بأدنى مجرح. يقول الذهبي عن هذا الحافظ: “ذكر عبد الغني أبو الوليد الباجي فقال حافظ متقن. فقلت لأبي ذر: أحدثت عنه؟ فقال: لا إن شاء الله على معنى التأكيد، وذلك لأنه كان له اتصال ببني عبيد”. (تذكرة الحفاظ 3/1048).
فصنيع هذا الإمام الأندلسي وهو أبو الوليد الباجي في تحاميه الرواية عن هذا الحافظ المتفق على تعديله وإمامته مع اعترافه بحفظه وإتقانه، لذلك السبب الذي لا يحظر ببال النقاد المشارقة الالتفات إليه مع توفر الثقة، يترجم طبيعة المغاربة في تمسكهم بحرفية القواعد.
الخاصية الثانية: وهي مرتبطة بالأولى، أو الأولى مبنية على هذه الثانية: النقد الشديد لكل عالم من علمائهم، مهما بلغ في الإمامة أو حاز من العلم والجلالة والمغاربة أشقاء الأندلسيين التوائم في هذا السلوك. حتى لم يكد يسلم من نقدهم أحد من الأئمة الكبار، كبقي بن مخلد ومحمد بن وضاح والأصيلي وابن عبد البر والباجي الذين وصلوا معه إلى حد التكفير، وكذلك ابن العربي المعافري وعياض الوقشي والنباتي وابن الأبار وغيرهم.
وما أظن سبب ذلك هو تحاسدهم فيما بينهم كما أراد ابن حزم أن يفسر ظاهرة النقد في الأندلسيين حيث قال:
“ولا سيما أندلسنا فإنها خصت من حسد أهلها للعالم الزاهرة فضله فيهم الماهر منهم، واستقلالهم كثير ما يأتي به واستهجانهم حسناته، وتتبعهم سقطاته وعثراته، وأكثر ذلك مدة حياته بأضعاف ما في سائر البلاد… وربما نحل ما لم يقل، وطرق ما لم يثقل، والحق به ما لك يقم به ولا اعتقده قلبه…”.
فإن الحسد موجود في كل مكان وبين كل الفئات، ولكنه لم يصل إلى حد أن يكون النقد هو الأصل بالنسبة إلى علم كل عالم. بل لعل مرد ذلك إما إلى طبيعة البلد ومناخه، أو إلى جدور أخرى ما زالت في حاجة إلى بحث ودراسة اجتماعية لاكتشافها. وإذا كانت خاصية النقد هذه تتعلق بانتقاد الرجال وانتقاد إنتاجهم على السواء فهم تعاملوا بهذه الطبيعة مع الأحاديث النبوية، فكثر تعليلهم لها وتشككهم في قلبوها لأدنى بادرة تحمل على التشكك في قبول الحديث وإن كانت لا تقدح في ذلك القبول.
وإذا كانوا قد فاقوا المشارقة في تجريح الرواة واتجهوا إلى علم (الجرح والتعليل) بوفرة، لأن طبيعتهم تلاءمت معه. فهم في التعليل كذلك. إلا أن المتخصص منهم في (العلل) قليل؛ ومن اتجه منهم إلى هذا العلم فلم يخرج عن طبيعة أهل بلده وخصائصه، باستثناء ابن عبد البر، الذي يعتبر من الآخذين بجانب الاعتدال، سواء في (التجريح) أو في (التعليل). ُ