الدولة والمجتمع وكرامة الأستاذ
جريدة الشمال – عزيز كنوني ( الاستاذ والتلميذ )
الثلاثاء 05 شتنبر 2017 – 12:17:11
ما حدث، في الأيام الأخيرة، في بعض فصول الدراسة بالمغرب، من اعتداءات متكررة على الأساتذة، بحضور التلاميذ، وأثناء الدرس، أمر يصل من الفظاعة والبشاعة والفداحة حدا لا يوصف، ولا يقاس، ولا يقبل. لقد أحدث صدمة كبيرة عند من تبقى في هذا البلد من أهل المروءة والأصالة والحمية والنبل، وزعزع إيماننا بالأمل في “تلاقح” الأجيال عبر تلاحقحها الأزلي، ليستمر المغرب جنة عدن تزهر فيها حدائق العلم والمعرفة والاصالة والنبل….والأخلاق. ” إنّما ُبعثت لأتمِمَ مَكَارم الأخــلاق ” !….
حالات ضحايا العنف في المدرسة العمومية بكل من ورزازات، و”كازابلانكا” والرباط ، وبرشيد، والقنيطرة، الذي مورس خلال الأيام الأخيرة، على أساتذة التعليم العمومي” لا يمكن اعتبارها “حالات معزولة”، كما صرح بذلك داخل قبة البرلمان، مسؤول حكومي ينوب عن القطاع، لغاية انفراج “البوكاج” الجديد، فالشيخ “غوغول” يحتفظ لكم في “ذاكرته” بحالات مشابهة، وقعت خلال السنوات الماضية، بل ويعطيكم “إحصائيات” ــ ما دمتم مولعين بالإحصائيات ولا تتعاملون إلا على أساسها ــ بخصوص مثل هذه الحالات.، على مختلف مستويات التعليم العمومي بالمغرب…..
أبطال هذا “القصف” العدواني ضد الأساتذة المربين معروفون اليوم لدى خاصة الناس وعامتهم بعد أن تداول الإعلام الحر وقائعه وآثاره المخزية، ولكن المؤلم بالنسبة لمن لازالوا يشعرون بكرامة الانتماء إلى الوطن، أن يغزو الخبر وسائط الاتصال العالمية، لينقل للعالم صورة مخزية شائنة مهينة عن ناشئة المغرب، البلد الذي بدأ يثير انتباه العالم إلى قدراته في ضبط سياساته الخارجية، والتحكم في مواقفه إزاء التوازنات السياسية والاقتصادية والعسكرية الدولية ، ويطمئن صناديق”الإنعام والإفضال”، شرقا وغربا، على مستقبله، فكيف يكون هذا المستقبل والنشء الجديد يفجر عدوانيته على من يسدي إليه نعمة العلم والمعرفة، لينقذه في مستقبل حياته، من براثين الجهل والفقر والتشرد والضياع….خاصة والأخبار الرائجة وطنيا وعالميا تبرز المنحى التصاعدي الخطير لهذه الظاهرة الخطيرة التي تبرز الحالة المتردية الفظيعة التي وصل إليها التعليم العمومي الوطني، وغياب المواكبة الصارمة لهذه التصرفات المشينة، التي كان يسهل إقبارها في الماضي، أو الوصول إلى “تفاهمات” بشأنها عن طريق “الله يعيش، الله يطيش”، إلا أن نهضة الإعلام المباركة، في أيامنا هذه، لم تعد تترك مجالا للتستر على مثل هذه الأعمال الموصوفة بالظلم والحكرة والإهانة، خاصة حين يتعلق الأمر بالمعلم الذي يشكل العمود الفقري للمنظومة التربوية التعليمية وقاعدة بناء التطور والحداثة والديمقراطية ودولة الحق والقانون. وأن كل ما يمس سلامة المعلم والاستاذ والمربي، يضرب في العمق، جهود المغرب نحو الرقى والتطور والنماء.، ويسيء إساءة بليغة إلى سمعة المغرب، وصورة المغرب، وأصالة المغرب وحضارته التي تواصلت عبر العصور بفضل العلم والعلماء والمربين النبلاء.
وهو ما أجمع عليه البرلمان حين اعتبر “أن تعنيف وضرب الأساتذة بالمؤسسات التعليمية العمومية، “إعلان صريح وصارخ عن فشل المنظومة التربوية، فضلا عن فشل السياسات المتبعة من طرف الحكومات المتعاقبة في مجال التعليم”، وبالتالي فإن هذا الأمر، يوجب مساءلة صناع القرار التعليمي التربوي، حول مدى نجاعة أدائهم في الرفع من قيمة المدرسة العمومية والعاملين فيها من معلمين وتربويين.
الكثيرون يعتبرون أن ظاهرة الاعتداء على الأساتذة من طرف تلامذتهم وطلبتهم داخل الأقسام الدراسية ، ضربة لما يفوق ألف سنة من التربية الخلقية بالمغرب، وتراجع للسلوك المدني داخل المدرسة، وترد لعلاقة المدرسة مع محيطها الإنساني ، وإعراض واضح عن مسؤولية احتضان المدرسة العمومية من طرف من وكل إليهم أمرها،
ومعلوم أن حديث التعليم وإصلاحه كان حاضرا في مختلف الخطابات الملكية، منذ خطاب المسيرة الخضراء سنة 1999، حيث أعلن جلالته أنه سينكب على ملف التعليم على ضوء الميثاق المنجز من طرف اللجنة الملكية الخاصة للتربية والتكوين. كما أن جلالته وقف، في خطابه بمناسبة الذكرى الستين لثورة الملك والشعب، على اختلالات ملف التعليم، التي أرجعها إلى اعتماد بعض البرامج والمناهج التعليمية، التي لا تتلاءم مع متطلبات سوق الشغل، ودعا إلى وقفة موضوعية مع الذات، لتقييم المنجزات، وتحديد مكامن الضعف والاختلالات في قطاع التربية والتكوين.والعمل على تعزيز المكاسب التي تحققت .
و قال جلالته إن ما يحز في النفس أن الوضع الحالي للتعليم أصبح أكثر سوءا، مقارنة بما كان عليه قبل أزيد من عشرين سنة. وهذا ما دفع عددا كبيرا من الأسر، رغم دخلها المحدود، لتسجيل أبنائها في المؤسسات التعليمية التابعة للبعثات الأجنبية أو في التعليم الخاص، لتفادي مشاكل التعليم العمومي، وتمكينهم من نظام تربوي ناجع.
وكان جلالة الملك قد ذكر في خطاب ملكي سابق أن إصلاح التعليم “يظل عماد تحقيق التنمية، ومفتاح الانفتاح والارتقاء الاجتماعي، وضمانة لتحصين الفرد والمجتمع من آفة الجهل والفقر، ومن نزوعات التطرف والانغلاق”. الأمر الذي يتطلب “إصلاحا جوهريا” لهذا القطاع المصيري، بما يعيد الاعتبار للمدرسة المغربية، ويجعلها تقوم بدورها التربوي والتنموي المطلوب.
وجاء أيضا في خطاب جلالته عند افتتاح الدورة التشريعية الحالية “أن المغاربة اليوم، يريدون لأبنائهم تعليما جيدا، لا يقتصر على الكتابة والقراءة فقط ، وإنما يضمن لهم الانخراط في عالم المعرفة والتواصل ، والولوج والاندماج في سوق الشغل ، ويساهم في الارتقاء الفردي والجماعي، بدل تخريج فئات عريضة من المعطلين”
أكيدا، إن المغاربة يريدون تعليما منتجا لأجيال صالحة، متشبثة بالأصالة والأخلاق والقيم، ويرفضون تعليما “مفرخا” للانحراف والمنحرفين، الذين يدسون بين كتبهم وأدواتهم في محفظاتهم المدرسية، سكاكين أو زجاجات أو شفرات حلاقة لـ “يخسروا” وجوه أساتذتهم لمجرد ملاحظة يتلقونها منهم، أو دعوة إلى الالتزام بنظام المدرسة والانضباط.
وما يحز في النفس ن أن ينبري أولياء التلاميذ “المنحرفين” للدفاع عن أبنائهم واعتبار أن اعتداءاتهم على مربيهم، كان له ما يبرره، كأن يطاب أستاذ من تلميذة أن تتوقف عن “مضغ المسكة” بطريقة مستفزة وهو يشرح الدرس، وهو ما “برر” هجوم التلميذة بزجاجة على أستاذها مسببة له جرحا غائرا على مستوى الوجه……أو قيام تلميذ بالدار البيضاء باعتراض سبيل أستاذة وهي تغادر المؤسسة التي تشتغل بها، والهجوم عليها بسكين تسبب لها في جرح غائر على الوجه، “عقابا ” لها على مشاركتها في مجلس تأديبي قضى بتنقيله إلى مدرسة أخرى قالت أم الطفل وهي “تسعف” ولدها و”تبرر” فعلته الشنعاء، إنه رفض قرار الانتقال…..مع العلم أن التلميذ المعتدي لا مشكل له إطلاقا مع الأستاذة الضحية. أو كذاك التلميذ الذي “شرط” وجه أستاذه الذي أمره بمغادرة القسم لعدم انضباطه بمواعيد الدروس وغيابه المستمر والغير مبرر عن المدرسة، وقس على ذلك بالنسبة لكل “التلاميذ” – تجاوزا ــ الذين “عملوا شرع يدهم “، ضد من مربيهم.
لا ننكر أن المعلمين والأساتذة ليسوا كلهم ملائكة، ولا كلهم شياطين، وأنهم قد يصيبون وقد يخطئون، ولذا توجد مساطير إدارية لردهم عن الخطأ ، كما هو الشان بالنسبة للقضاة، على سبيل المثال، ويبقى استعمال “شرع اليد” مرفوضا، بل في كل الحالات.
وفي الوقت الذي تتعالى أصوات المربين والحقوقيين ونشطاء المنظمات الأهلية مطالبة بتجريم الاعتداء على الأساتذة، لأن التابعة لا ينبغي أن تكون على أساس “إهانة موظف عمومي حال قيامه بواجبه”، اعتبارا للعلاقة السببية والاعتبارية الموجودة بين التلميذ وأستاذه، فإن الرأي يميل إلى متابعة أولياء أمور التلاميذ القصر، بوزرة أبنائهم الذين يتحملون مسؤوليتهم المدنية والجنائية، وأيضا لتقصيرهم في تربيتهم وتهذيب سلوكهم.
وصدق الشاعر العربي يوسف أحمد أبو ريدة الذي نظم قصيدة رائعة في مدح المعلم في “يوم المعلم” حيث أنشد:
__________________________
أشعلت روحك في الآفاق مصباحا ورحت تزرع في الأوطان أرواحـا
ورحت توقـد فـي الأبـدان مفتخـرا عزيمـة تغـمـر الأكــوان إصبـاحـا
ورحت تبنـي منـارات العـلا شهبـا وتـوقــد الـحـلـم آمـــالا وأفـراحــا
حمـلـتَ هــمّ بـنـاء الجـيـل متّـخـذا مـن درب أحمـدَ للأمـجـاد مفتـاحـا
وقفـت نفسـك فـي ذات الإلـه ومــا طلـبـتَ شـكـرا وتقـديـرا وأمـداحـا
إلى أن يقول:
تـبــارك الله إذ أعـطــاك مـكـرمـة فصـرت للشعـب قنديـلا ومصباحـا
تحارب الجهل تبني الجيـل مفتخـرا تـقــدّم الـعـلـم لـلـطـلاب أقــداحــا
تطوّع الدرس كي ترقى بهـم هممـا حتى يصيروا لهـذا الشعـب أرباحـا
فاهنـأ فإنـك فـي كـل الشـعـوب دمٌ تـبـثّ فـيـهـا بـحــول الله أرواحـــا .