الرِّحْلَة الْحِجَازِيّة الْمَعْرُوفة بـ: مُشَاهَدَاتِي في الْحِجَازِ لِعَبْد الله كنُّون (1326-1409هـ) ـ 1 ـ
جريدة الشمال – بقلم: محمد القاضي (الرِّحْلَة الْحِجَازِيّة لِعَبْد الله كنُّون)
الجمعة 12 ينــاير 2018 – 11:20:25
صاحب الرحلة:
وقد نوه الكثيرون من الأدباء والباحثين والنقاد بالكتاب الأول أمثال الدكتور طه حسين، وشكيب أرسلان، والمستشرق الألماني بروكلمان، والباحث المؤرخ نقولا زيادة وغيرهم. كما حظي الكتاب الثاني باهتمام الباحثين والدارسين والمهتمين بالأدب المغربي الحديث في المغرب والمشرق. إضافة إلى كتب متنوعة أخرى مثل سلسة (ذكريات مشاهير رجال المغرب) التي صدرت منها خمسين عددا.
الرحلة:
قام المرحوم عبد الله كنون بهذه الرحلة سنة 1957م ضمن الوفد الرسمي للحج الذي عينه المرحوم جلالة الملك محمد الخامس، وقد دونها في ثلاث حلقات نشرت بمجلة (دعوة الحق) المغربية تحت عنوان (مشاهداتي في الحجاز)، نشرت الحلقة الأولى بالعدد (الرابع والخامس / السنة الأولى/ ربيع الثاني 1377هـ/ نونبر 1957م) والثانية في العدد (السادس من نفس السنة /جمادى الأولى 1377هـ/ دجنبر 1957م) والثالثة في العدد العاشر /السنة الأولى/ رمضان 1377هـ/ أبريل 1958م).
بدأ الحديث في الحلقة الأولى عن الاستعداد للسفر، واستقبال الوفد من طرف جلالة الملك محمد الخامس، بمدينة مراكش صبيحة يوم الخميس 20 يونيو 1957م والحضور معه في زيارة قبر أمير المسلمين يوسف بن تاشفين والوقوف على التصميم الذي وضع لبناء قبر مؤسس مراكش. ثم التعرف على الرفقة التي ستصاحبه. وبعد العودة من مراكش إلى مدينة الرباط التي قضوا بها يومين، حيث قاموا بإجراءات السفر، والتأشير على الجواز من طرف ممثلي البلاد التي سيمرون بها، والتزود ببعض العملات الأجنبية. وفي منتصف ليلة 23 يونيه انطلقت الرحلة من مطار سلا نحو جدة عبر ليبيا وكان في وداعهم محمد المختار السوسي وزير التاج، ومحمد الدويري وزير الأشغال العمومية وأحمد بناني مدير التشريفات، والمكي بادو المكلف بوزارة الأوقاف، ومحمد الطنجي رئيس قسم الوعظ والإرشاد، وقاسم الزهيري مدير الإذاعة الوطنية والفقيه الحاج محمد التطواني وغيرهم.
كان الوصول إلى مطار بنغازي بليبيا صبيحة يوم الأحد أي في الساعة العاشرة حسب توقيت ليبيا للاستراحة حيث كان في استقبالهم بالمطار السيد عبد الرحمن غازي كاتب السفارة المغربية بتونس، وفوج من الطلبة المغاربة الذين أنهوا دراستهم الثانوية بمعاهد ليبيا، وأبدوا لهم الرغبة في الرجوع إلى المغرب، ورؤية بلادهم مستقلة.
وبعد استراحة ساعتين تحركت بهم الطائرة في اتجاه جدة، التي وصلوها بعد المغرب بقليل وكان في استقبالهم سفير المغرب بالحجاز الفقيه السيد محمد غازي ومساعدوه. ومما لاحظه في هذا المطار كثرة الحركة “وفي تلك الأثناء كنت أتأمل في حركة المطار فأرى أفواجا عديدة من البشر على اختلاف ألوانهم وألسنتهم يتسابقون إلى حيث ينجزون مع الموظفين السعوديين الإجراءات اللازمة للدخول إلى المملكة العربية، وهؤلاء الموظفون الذين يعدون بالعشرات، ما بين شاب وكهل ومعمم ومطربش، يقومون بأعمالهم في منتهى النظام والأدب، ورجال الشرطة مبثوثون هنا وهناك، يسهرون على الأمن ويمنعون الفوضى، وبما أن الجو كان في غاية الحرارة، فإن بناية المطار كانت تعج بالمراوح الكهربائية لتلطيف الهواء… والمهم أننا لم نر أجنبيا واحدا يقوم بعمل ما في إدارة المطار ولم نقرأ كلمة واحدة غير عربية على مكتب أو لافتة.”
كان الخروج من المطار على متن السيارة إلى دار السفير الذي نزلوا عليه ضيفا.
وصف مدينة جدة:
وفي يوم الإثنين 25 ذي القعدة خرجوا للتجول في شوارع وأسواق جدة، وقاموا بتحويل العملة في مصرف الهند الصيني. ومما لاحظه آنذاك أن أعلى ورقة مالية سعودية تبلغ عشرة ريال. وأن المصارف –كما قيل لهم- تقفل في أيام الحج! ويذكر أن الطواف على الأسواق والشوارع غير ممكن بالنهار في غير السيارة لشدة الحرارة، والذي لفت نظره كذلك هو الحركة الدائبة في البناء والتعمير، فكم من دور شاهقه –والدور في جدة على الطراز الهندي تتكون من عدة طبقات- نراها تتهدم لأن شارعا جديدا يخترقها، وكم من بنايات جديدة على الطراز العصري تقوم هنا وهناك… ومن جملتها الفندق الجديد الذي يعد أفخم فندق بجدة الآن والذي دشنه الملك سعود في أيام الحج… والشوارع الجديدة معبدة على أحدث أسلوب، وقد غرست الأشجار بجانبيها وإن كانت ما زالت لم تكبر وتترعرع. وقد قيل لهم أنه قبل سنتين فقط كان من المستحيل أن ترى نبتة أو شجرة هنا، والسبب في ذلك قلة الماء بجدة، إذ كان ماء الشرب فيها إنما يستقطر من ماء البحر، والآن، لما جرت الحكومة الماء إلى المدينة من عين فاطمة دبت الحياة في جدة فنشطت حركة البناء والغرس، فكثيرا ما ترى حدائق الفيلات أنيقة يداعب النسيم أشجارها.
الاستقبال الملكي للوفد المغربي:
وفي صباح يوم الأربعاء 27 ذي القعدة، استقبلهم جلال الملك سعود بقصره بجدة، وقد خصه عبد الله كنون بوصف رائع، فهو قصر فخم يقع وسط حديقة واسعة، مسور بسور لطيف، والطريق إليه ممهدة أحسن تمهيد، وقد نصبت عليها عرائش ما زالت تستتم نباتها، وخللت بالمصابيح الكهربائية القوية، التي تجعل منظره بالليل بديعا للغاية… أما بناؤه فهو على الطراز التركي في هذه المدرجات الطويلة، وهذه البوابات العظيمة، وهذه القبب الضاربة في الهواء، وهذه البلاطات الفسيحة، فإذا صرت بداخله رأيت من الأعمدة الرخامية، والعقود المزخرفة، والثريات العظيمة والزرابي الكبيرة ما يتناسب وعظمة الخارج، وقيل لنا إن هذا القصر هو من بناء الملك سعود نفسه، وكذلك جميع القصور التي يسكنها في أنحاء مملكته الشاسعة الأطراف هي من بنائه، وقد عوض بها القصور التي كان يسكنها والده المرحوم. وتنازل عن قصور والده بجدة لوزارة التعليم، فجعلت منها معاهد علمية لأبناء رعيته.
وفي قاعة الانتظار التقوا مع بعض الوجهاء السعوديين وسفير الصين الوطنية. وجاء الإذن بالدخول إلى المحل الذي يوجد فيه جلالة الملك، فإذا هو قاعة عظيمة، وقد جلس جلالته في صدرها على كرسي فخم، واصطف على جانبها الحرس السعودي ببنادقهم. “وقد سرنا من بابها إليه نحو العشرين خطوة، فإذا به يقف ويصافحنا واحدا بعد واحد، ويجلسنا عن يمينه ويساره، ويرحب بنا أحسن ترحيب. فقدم إليه رئيس الوفد رسالة جلالة الملك، وأبلغه تحياته وعواطفه نحوه، فسأله عن جلالته ويثني عاطر الثناء عليه، ويذكر زيارته للمغرب، وما قوبل به من حفاوة بالغة.. “وشكرنا جلالته على هذه العناية الكريمة وقدمت لنا القهوة والمبردات وانصرفنا مودعين بما قوبلنا به من حفاوة وإكرام” (ص52).
والتقى في جدة بعالمين جليلين وهما: الشيخ عبد العزيز الميمني الراجكوتي والأستاذ خير الدين الزركلي، أما الأول فقد هبط الحجاز حاجا، والثاني قدم من مصر للاتصال بالملك سعود، لأنه كان مندوبا لجلالته لدى الجامعة العربية، وعين بعد ذلك سفيرا للسعودية بالمغرب. وجرى معهما أحاديث علمية مفيدة وذلك في بيت السفير المغربي. كما التقى بصديقه الدكتور تقي الدين الهلالي، وكان يتوق إلى التعرف برجل جدة وفاضلها الشيخ محمد نصيف ولكنه كان خارج البلاد، وقد تيسر له ذلك من بعد في مصر عند سماحة مفتي فلسطين. كانت إقامة الوفد بجدة ثلاثة أيام كلها مليئة بالعمل والنشاط والاتصالات.
وقام بخدمة الوفد المغربي المطوف عبد الوهاب الحريري ونجلاه السيدان محمد وعبد الرحمن بدء من جدة إلى نهاية المناسك.
الخروج من جدة نحو المدينة المنورة:
في فجر يوم 29 ذي القعدة، امتطوا الطائرة نحو المدينة المنورة لزيارة قبر الرسول التي وصلوها بعد ساعة من التحليق “وهبطنا الأرض وأي أرض هي؟! إنها الأرض التي انبعث منها شعاع الإيمان فأضاء ما بين المشرق والمغرب، إنها الأرض التي آوت رسول الله، فلم يبلغ بها بديلا بعد… إنها الأرض التي عرفت دعوة الحق فأيدتها وناصرتها دار الإيمان الأولى… هي المدينة التي تثبت في كل لحظة صلة الأرض بالسماء، وصلة ساكنها عليه السلام بالرفيق الأعلى… الله أكبر هذا أحد، الجبل الذي يحب رسول الله ويحبه الرسول، وهذه قباء، حيث المسجد الذي اسس على التقوى من أول يوم! وهذه هي القبة الخضراء يغمرها النور، ويتغمدها الرضوان، وتحف بها ملائكة السماء!.”
وكان في استقبالهم الأستاذ الحاج محمد ابن اليمني الناصري، وركبوا سيارة عمومية نحو مكان إقامتهم بوسط المدينة، وهم في غمرة من الغبطة والسرور، والسعادة والحبور. “وقمنا نتجهز للزيارة الكريمة بتجديد الطهارة، ولبس أحسن الثياب وأوقره، والتطيب” .
وقصدوا المسجد النبوي، وانصرفوا إلى المواجهة الشريفة “فلا أستطيع أن أعبر عما خامرنا من شعور الهيبة والإجلال لذلك المشهد العظيم، ووقفنا كأنما على رؤوسنا الطير، وخشعت أبصارنا، ورجفت قلوبنا، وكانت لحظة بمثابة العمر، انطلقت فيها ألسنتنا بالسلام عليه ودعاء الله عزوجل أن يجيزه عنا أفضل ما جزى نبيا عن أمته، ثم السلام على صاحبيه وخليفته الصديق والفاروق رضي الله عنهما، ورجعنا بعدها إلى المكان الذي قال فيه الرسول (مَا بَيْنَ رَوْضَتِي وَمَنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ). نرتع بما يناسبه من دعاء وتفكر، وقراءة وتدبر، وصلاة إلى أن صلينا الظهر وعدنا إلى المنزل” .
وقد زارهم بالمدينة المنورة السيد محمد بن الطيب الذي كان يشتغل أستاذا بمدارس الحجاز، وبقي يتردد عليهم في المدينة ومكة ويأخذ بيدهم. ثم ينتقل للحديث عن المغاربة المقيمين بالحجاز، وهم طبقات مختلفة يمثل الشناقطة نسبة إلى بلاد شنقيط بموريطانيا اليوم أكثرهم عددا، وقد اشتهروا منذ زمان بحب المجاورة في البلاد المقدسة، وذلك لأنهم فضلا عن الشعور الديني الذي يجذبهم إلى المجاورة ينسجمون كثيرا مع طبيعة البلاد وأهلها، فلا يشعرون بفارق ما بين حياتهم في وطنهم وحياتهم في الحجاز… وهم كسائر المغاربة يفضلون المدينة على مكة. ولهذا فعددهم بالمدينة أكثر منه بمكة.
ومن المغاربة المقيمين بالحجاز أفراد هاجر آباؤهم أو هاجروا هم منذ مدة طويلة وهم يعتبرون من الرعايا الحجازيين كصاحب البيت الذي نزلوا فيه، وينزل فيه وفد الحج الرسمي كل سنة. وقد خصه بوصف دقيق نظرا لتفرده عن باقي البيوت الأخرى بالمدينة العتيقة.
وهذا البيت كان يسكنه العلامة المحدث الشيخ محمد بن جعفر الكتاني مدة إقامته بالمدينة المنورة. وحسب ما قيل لهم بأنه من أكبر البيوت القديمة، وهو على الطراز التركي، والطابق السفلي الذي كانوا يقيمون فيه عبارة عن قاعة طويلة ذات دكتين مفروشتين بالحشايا والوسائد عن يمين الداخل ويساره، في حين أو وسط القاعة مفروشة بالكراسي، وفي أعلاه فتحة إلى السماء بمثابة الحلقة التي تكون في وسط المنازل بالمغرب، وعليها قلع (غطاء) ينشر في وسط النهار بواسطة حبال متصلة به لاتقاء شعاع الشمس ويطوى فيما عدا ذلك طلبا للتهوية، وارتفاع هذه القاعة كبير جدا بحيث يساوي أعلى طبقة في المنزل، وقبل القاعة يوجد مقعد متوسط يستعمل كمحل للأكل، وليس في البيت حمام ولا دورة مياه عصرية، والماء ينقل إليه بواسطة سقاء، كما أن الاستنارة فيه وفي غيره من بيوت المدينة ما تزال بواسطة مصابيح الغاز. ومما لاحظه المرحوم عبد الله كنون في هذه الرحلة أن المدينة لم تحظ حتى تلك الساعة بعناية كبيرة من حيث الإصلاح وإدخال وسائل الحضارة فيما عدا المسجد النبوي. والتقوا بالسيد محمد بن عبد الرحمن الوالي الفيلالي صاحب مدرسة التهذيب بالمدينة، وقاموا بزيارة مدرسته، واستدعاهم لبيته. ومنهم كذلك أيامي كثيرات، توفي أزواجهن عنهن أثناء الحج أو بعد المجاورة زمنا، فلم يستطعن الرجوع إلى المغرب. ويمثلن أكثر مدن المغرب ونواحيه من فاس ومراكش والدار البيضاء والقصر الكبير وتطوان وغير ذلك. وحالتهن تدعو إلى الرثاء.
فتمنى أن يقع الاعتناء بإحصائهن كسائر المغاربة، ويسهل لهن العودة إلى مساقط رؤوسهن أو تنظم لهن عناية مناسبة في حالة ما إذا اخترن البقاء هناك.
يتبع