الرِّحْلَة الْحِجَازِيّة الْمَعْرُوفة بـ: مُشَاهَدَاتِي في الْحِجَازِ لِعَبْد الله كنُّون (1326-1409هـ) ـ 2 ـ
جريدة الشمال – بقلم: محمد القاضي (الرِّحْلَة الْحِجَازِيّة لِعَبْد الله كنُّون)
الجمعة 19 ينــاير 2018 – 13:20:51
وصف المسجد النبوي الشريف:
استمرت الإقامة في المدينة سبعة أيام “كأنها طيف خيال، وفي اليوم الذي عزمنا فيه على السفر، وصل إليها صباحا سفير المغرب بالعراق السيد الحاج الفاطمي بن سليمان ووزير القصور والأوسمة الأستاذ محمد معمري الزواوي وصحبتهما سفيرنا بجدة الأستاذ غازي ومندوب وزارة الخارجية السيد عبد اللطيف العراقي. فقضينا اليوم جميعا في أنس وسرور، لم ينغصه علينا إلا تلاعب المزور الذي كان مكلفا بإحضار تذاكر الطائرة التي سننتقل عليها إلى جدة، وبدأت المتاعب تتضح شيائا فشيئا بدء بما لاقوه في المطار من انعدام الضبط والالتزام بساعة الانطلاق، لولا تدخل مديره الذي اتصل به بعض الرفقاء، فتأسف لما وقع، وأكد لهم إن هذا من تهاون المزور.
ولما وصلوا إلى جدة وصحبوا السفير الذي كان في انتظارهم بعدما وصل قبلهم بالسيارة إلى الفندق الذي كانت السفارة المغربية قد حجزت فيه بعض الغرف. ولن المكلف ادعى أنه لا علم له بذلك الحجز، فذهبوا مع السفير إلى بيته للاستراحة. وقدم لهم مستشار السفارة السيد أحمد الشرقاوي “ورقة المجاملة” لتسهيل التنقل في الطريق بين جدة ومكة وطريق عرفة كما سلمهم رسائل الدعوة إلى المأدبة الرسمية التي سيقيمها جلالة الملك سعود لوفود الحجاج من جميع البلاد الإسلامية مساء ذلك اليوم بمكة، ولن يتمكنوا من ذلك بسبب تأخيرهم في الوصول إلى مكة، فقد خرجوا من جدة عشية في سيارة اكتروها بمائة ريال سعودي، وتعرضوا في الطريق لكثير من التوقفات عند مراكز الشرطة المتعددة، بحيث استمرت الرحلة ساعتين كاملتين لمسافة لا تتعدى سبعين كيلومترا وقتذاك رغم أن الطريق معبدة كأحسن ما يكون. ومن غريب ما وقع لهم في أحد مراكز الشرطة أن سألهم الشرطي عن الثمن المؤدى لكراء السيارة فأخبروه بالحقيقة. فأنزل السائق ووبخه، ثم قال لهم لا تدفعوا له إلا (36 ريالا) بواقع ستة ريال للنفر.
ومما لاحظه كذلك مدون الرحلة أن الأسعار كلها تعرف ارتفاعا في موسم الحج لأنها لا تخضع للرقابة الصارمة، ولو وقع ذلك لصار الحج من أسهل ما يكون على الطبقات الفقيرة والمتوسطة. وذكر بالاستغلال الذي تمارسه شركات السفر في المغرب والنقل الجوي والبحري والبري، والأثمان الباهظة التي تتقاضاها من الحجاج، والتلاعب الذي تقوم به البواخر بالخصوص في تأخير مواعد الرجوع، لتستغل الوقت في تنظيم سفريات بين جدة لليمن أو غيره من الأقطار الأخرى، على حين أن الحجاج المغاربة ينتظرون الرجوع إلى بلادهم بفارغ الصبر، وقد أخذ منهم الضعف والعياء كل مأخذ.
الوصول إلى مكة:
كان الوصول إلى مكة عند الغروب، ولم يعاملوا السائق بما طلب إليهم الشرطي، فأدوا له ما اتفق عليه. وذهبوا مباشرة إلى البيت الحرام، “وطفنا وسعينا وأحللنا من عمرتنا، ثم جئنا إلى رباط المغرب الذي هو محل نزول الوفد، وهناك التقينا برجال السفارة الذين حدثونا عن المأدبة الملكية وما لقوه فيها من بر وإكرام” .
ثم يتحدث عن رباط المغرب، إذ هو بيت مكون من ثلاث طبقات، ويقال إنه مشترك بين أقطار إفريقيا الشمالية الثلاثة، فينزل وفد كل قطر منها في طبقة منه، فالأول مخصص للمغاربة.والبناية قديمة وصغيرة، وتفتقر لكل أسباب الراحة من حمام ودورة مياه ومطبخ، وأحسن ما فيه هو قربه من الحرم، ويتوفر على الكهرباء. وفي مكة التقوا بالحجاج المغاربة الذين وصلوا عن طريق البحر، وكان من بينهم وفد وزارة الداخلية، ومبعوث الإذاعة ورئيس البعثة الصحية. وبدأوا في آداء المناسك حتى النهاية.
ومما سجله المرحوم عبد الله كنون ضمن مشاهداته في الحجاز أن مسجد الخيف المشهور بمنى وهو مسجد قديم وله صحن كبير مكشوف، وبلاطاته المسقفة فيستحيل وجود محل فيها لداخل بقصد الصلاة أمثالهم، فقد احتله فقراء الحجاج من كل قطر وجنس، ومعهم أثقالهم وأدواتهم، وصار الواغلون فيهم من غير طبقتهم متطفلين غير مرغوب فيهم.
أما الطريق إلى عرفة فهو معبد، والسيارات لاحد لها وشرطة المرور قائمة بواجبها، فقطعوها في نصف ساعة، فوجدوا المطوف وقد هيأ لهم سرداقا فخما وفرشة بأحسن ما لديه من الفرش، وأعد لهم الطعام والماء والثلج، ويذكر أن عدد الحجاج في ذلك العام حسب الإحصاء الرسمي مليونا وثلاثة آلاف وبضع مئات، وهو رقم قياسي لم يتقدم له نظير، والسبب في ذلك هو أن الملك سعود أذن لكافة قبائل العرب من نجد بالحج. وكان من قبل لايؤذن لهم إلا في نطاق محدود.
وشكل رمي الجمرات مشكلة نظرًا للازدحام الشديد وحرارة الشمس الأمر الذي لا يتحمله العديد من كبار السن أو القادمين من مناطق باردة أو معتدلة.
وفي صبيحة يوم ثاني العيد، ذهب الوفد المغربي لتهنئة جلالة الملك سعود في قصره بمنى على متن سيارة اكتروها بمائة ريال سعودي. ولما وصلوا القصر، أذن لهم بالدخول مع وفود دول أخر، عربية وإسلامية حيث استقبلهم جلالته بحفاوة وأجلسهم بجانبيه، وألقى الأستاذ سعيد رمضان خطابا نوه فيه بالملك سعود وجهوده في نصرة الإسلام، واستنجد به لإنقاذ فلسطين وإغاثة لاجئيها المنكوبين. ثم ألقى شاعر من أندونيسيا اسمه عبد الله حنون قصيدة بليغة في مدح جلالته، وقدمت القهوة والمشروبات المبردة. وقام رئيس الوفد المغربي بتقديم هدية جلالة الملك محمد الخامس لأخيه الملك سعود، وهي عبارة عن زربية عظيمة وبديعة الصنع من شغل المغرب.
وفي مساء نفس اليوم ذهب مدون الرحلة (عبد الله كنون) والسفير المغربي إلى تهنئة وزير المالية السيد عبد الله بن سرور الصبان وقدموا له صلة جلالة الملك المعهودة للحكومة السعودية.
وبعد الغروب أقامت السفارة المغربي حفلة شائقة بمناسبة تنصيب سمو ولي العهد الأمير مولاي الحسن (الملك الحسن الثاني) شارك فيها المغاربة ورؤساء الوفود وأعيان الحجاج، وتوجت في الأخير بحضور سمو الأمير محمد بن سعود.
وفي الرحلة إشارة إلى النهضة العلمية والاجتماعية بالحجاز “على حسب ما علمنا تتقدم كل يوم، ولا سيما في عهد الملك سعود فقد أسست في السنة الأخيرة مدارس ثانوية كثيرة في كل مكان، وها هي الجامعة السعودية قد فتحت أبوابها في الرياض عاصمة المملكة. وهناك معاهد أبحاث مختلفة سمعنا عنها، ومدارس للقضاء الشرعي بمكة وغيرها.
والصحافة راقية هناك، ما بين جرائد ومجلات، وما رأينا منها لا يقل عن نظيره في بقية البلاد العربية، والسينما لا وجود لها. والمرأة ما تزال محجبة حجابا شديدا، وتعليم البنات ما زال غير مسموح به رسميا.. لم نسمع انتقادات سياسية ولا شعرنا بتذمر من رجال الحكم” .
وفي عصر يوم 14 يوليوز 1957م الموافق 13 ذي الحجة 1376هـ غادر الوفد المغربي المملكة العربية السعودية بالطائرة عبر بيروت في اتجاه المملكة المغربية.
يتبع