فتاة في مقتبل العمر، رشيقة، جميلة، أنيقة، لا هي بالمتبرجة زيادة عن اللزوم و لاهي بالمحتجبة زيادة عن اللزوم، تحمل حقيبتها الجلدية على كتفها الأيسر، تسير على الرصيف الأيمن بخطوات متزنة غير عجلى و غير مبطئة.
ضجيج يدنو شيئا فشيئا، يختلط فيه صوت المحرك المخنوق بأصوات بنادير و كمنجة و…،ثم يعلو من حين لآخر صوت أنثوي “مجالي” يشبه أنينا أو تفجعا أو بهجة، نداء أو استغاثة أو حنينا…
على بعد خطوات من الفتاة تخفض السيارة الرباعية الدفع من سرعة، لتلتصق بجانب الرصيف الذي تمشي به في هدوء و اطمئنان، يرتفع صوت الموسيقى والغناء أكثر فأكثر لإثارة انتباه الفتاة التي استمر سيرها بنفس الإيقاع وخطواتها بنفس الثبات ولم تعر هذا الضجيج أي اهتمام..
تدوم المتابعة اللصيقة دون هوادة و دون أي رغبة في التراجع أو التخلي، كان وحده الله يعلم خلالها ما يدور بذهن الفتاة من رعب و هواجس و يغلي بخلدها من غضب و حقد؛ كان الأمر مرعبا فعلا، لأنه كان يجري و كأن لا أحد في الشارع الطويل العريض غيرهما، لم يكن وجهه يشعر بأدنى حرج و هو يخرج رأسه “المكسكت” من حين لآخر متلفظا بعبارات لا يدري مغزاها إلا هو كلما استماتت الفتاة في ثباتها و دفاعها الصامت عن أنوثتها المشروعة و كرامتها المهدورة..
لما تمكن اليأس من المشهد، سمع، على حين غرة، احتكاكا خاطفا و مزعجا للعجلات بالأسفلت و أزيزا عنيفا لفورة المحرك الذي ز ادت حشرجاته المخنوقة، لتختفي السيارة التي كانت تسير، على مهل و بإصرار على البطء، في رمشة عين، ثم تعود، بعد لحظات، بسرعة جنونية و كأنها في حلبة سباق تاركة وراءها سحابة كثيفة من الدخان..
قال:
-يا ربي السلامة..
ثم سمع تأفف زوجين تجاوزا سن الخمسين، وهما يلهجان بحس أبوي:
-الله ينعل اللي ما يحشم..
فقالت الفتاة، متوجهة إليهما ،بحس البنوة، و كأنها تنفث هما مقيما و حملا ثقيلا:
-هذه المشاهد المخجلة و المقززة تزداد كل يوم انتشارا وعنفا و كأننا لا نعيش في حواضر و في مجتمع عريق له قيم…، إنها للأسف مؤشر من المؤشرات التي تنذر بأن حالنا ينخرها المرض، و نتمنى أن لا يعدم و يتأخر الدواء..
أخذته غشاوة و هو يفكر في تفاصيل المشهد، كادت خطواته أن تتعثر مرات لولا هبات يقظة رحيمة امتدت بداخله، كان دائما يحس أن المخاض الذي نعيشه في مجتمعنا عسير، ولكنه لم يكن يوما يتوقع أن الانعراج القيمي سيأخذ في بعض مظاهره الوجهة المتوحشة التي يعرفها اليوم..شعر كما لم يشعر من قبل بما يشبه اللاجدوى أو الحيرة، بالعجز عن الفهم أو الضبابية..
وردد مرات وهو يطوي الطريق:
-السلامة يا ربي..
عبدالحي مفتاح