” الشريف محمد أمزيان ” أسامة الزكاري
الجمعة 14 أكتوبر 2016 – 17:39:54
· يعتبر المجاهد الشريف محمد أمزيان رائد النضال التحرري الوطني ضد جحافل الغزو الاستعماري بمنطقة الريف خلال العقد الأول من القرن 20، بالنظر لأهمية الدور المركزي الذي اضطلع به في مجال تعبئة قبائل المنطقة واستنفارها للجهاد، ثم بنزوله إلى ساحة الوغى، مقاتلا شرسا ومقاوما صلبا لم توقف عزيمته دسائس الأعداء ولا جبروتهم ولا ضعف المخزن المحلي والمركزي.
و قد ظلَّ على هذا الحال إلى أن سقطَ شهيدًا يوم 15 ماي من سنة 1912، بعد أن نجح في إنهاك القوة العسكرية الإسبانية الغازية، وبعد أن زرع بذور الوعي الوطني التحرري بمنطقة الريف، وهو الوعي الوطني الذي أثمر أشكالا متقدمة من العمل المقاوم المبادر والمنظم سواء بالمنطقة أو بباقي جهات البلاد. لقد جابه الشريف أمزيان إحدى أعتى الإمبراطوريات الاستعمارية لمرحلة فجر القرن 20، متحديا الاختلالات الهائلة في موازين القوى وضعف تسليح أنصاره وغياب أسس التنظيم الميداني العصري، ومع ذلك فقد نجح في تحويل منطقة الريف إلى بؤرة للعمل الجهادي المبادر، واضعا أسسا متينة للجمع بين البعد الروحي / الديني في عمله وبين البعد الميداني الجهادي الخالص، مما أكسبه الكثير من عناصر القوة التي نجحت في كسر شوكة الآلة الاستعمارية الإسبانية.
وعلى الرغم من القيمة التاريخية والوطنية التحررية لمثل هذه الأدوار، فقد ظلت سيرة المجاهد الشريف محمد أمزيان في حاجة إلى المزيد من البحث ومن التنقيب، مادامت خباياها وجزئيات فعلها في محيطها الضيق وامتداداتها الوطنية الواسعة لازالت مجهولة وغير متداولة إلا على نطاق ضيق، لأهداف متعددة يرتبط أغلبها برغبات مستترة لإعادة تكييف وقائع التاريخ الجهادي للريف وفق منطق ” تدافع المرحلة ” وصعود القراءات العرقية المتماهية مع تبعات النقاش الوطني حول قضايا الهوية والتاريخ المغربيين.
ولعل من الأعمال الأكاديمية الرصينة التي رأت النور قبل سنوات قليلة، في محاولة لإعادة التأصيل العلمي لسيرة الشريف محمد أمزيان، تلك التي بلورها الدكتور حسن الفكيكي في شكل تنقيبات وثائقية وأعمال بيبليوغرافية ودراسات تصنيفية اكتست الكثير من عناصر الاحترام والتقدير العلميين، بالنظر لقوتها المنهجية ولتحررها من كل الضغوط التي لا ترتبط بصلة مع ثوابت البحث العلمي. وعلى رأس هذه الإصدارات، نذكر كناب ” الشريف محمد أمزيان : شهيد الوعي الوطني ( 1908 – 1912 ) “، الصادر سنة 2008، في ما مجموعه 440 صفحة من الحجم الكبير. وبخصوص الإطار العام الذي انتظم فيه هذا الإصدار، فقد لخصه المؤلف في كلمة استهلالية دقيقة، جاء فيها : ” ليس هناك خلاف في كون الحرب التي أقحم الشمال الشرقي المغربي بين شقي رحاها في آخر العقد الأول من مستهل القرن العشرين ( 1908 – 1912 ) لا مبرر لها سوى اندفاع غرور القوة العسكرية بعقدة تفوق حضارة الآلة الحربية وتسليطها على من هو أدنى مستوى من طرازها. والكتاب الذي بين أيدينا هو محاولة جعلنا منها أوسع مرجع للحرب وفصولها.
وقد حصرنا الاهتمام في هذا الكتاب حول جانب مهم ودقيق في آن واحد، رجاء الكشف عن القوة الكامنة التي كانت وراء الكفاح المسلح المرافق لجهاد الشريف محمد أمزيان، باجتماع صفتي الرياسة الروحية والزعامة الحربية. ولا مجال للإنكار أن النزر القليل هو الذي نعرفه من تلك السيرة، وما زلنا غير متمكنين من مصادرها بما يشفي الغليل، ومتشوفين في نفس الوقت لمعرفة المزيد عن الثقافة الحربية النابعة من الحماس الوطني عن تجربة وممارسة. فالكتاب نبذة لما وهب الله الشريف محمد أمزيان في تلك الظروف من إيمان وحب وطنيين عميقين. وهو دراسة لعناصر متعددة مستوحاة من تلك الشخصية التي قيض لها الله أن يكون صاحبها شهيد الوعي الوطني، فما حياة محمد أمزيان وجهاده سوى مثال حي لإيمان الشمال الشرقي المغربي بحرمة تراب هذا الوطن … “.
تتوزع مضامين الكتاب بين ثلاثة أقسام متكاملة، وتقديم منهجي، وتوطئة تحليلية بيبليوغرافية، ثم مدخل عام حول المجال الجغرافي لقبيلة قلعية ثم حول شخصية محمد أمزيان وأسس مكونات وعيه الوطني وإرثه الصوفي. وفي القسم الأول من الكتاب، اهتم المؤلف بالتأريخ لظروف ميلاد حركة المقاومة بالميدان الريفي ارتباطا بمخططات الغزو الاستعماري الإسباني للمنطقة، مركزا على إبراز اللحظات الحاسمة في هذا الميلاد ومعرفا بأبرز الأعلام التي كان لها دور في هذه العملية التأسيسية، مثلما هو الحال مع شخصيات كل من محمد بن عمر الشاذلي، والحاج عمر المطالسي، والمرابط محمد أخمليش … وقد أنهى المؤلف هذا الرصد الأولي بتقديم قراءة تركيبية في الحصيلة الجهادية لعمل رواد هذه المرحلة التأسيسية سواء بالنسبة لقبيلة قلعية أو بالنسبة لعموم مكونات منطقة الريف الشرقي. وارتباطا بنفس السياق، انتقل المؤلف لتفصيل الحديث عن دور جبل قلعية في قيادة عمل المقاومة المسلحة منذ سنة 1909 من خلال سلسلة من المعارك ومن المواجهات الميدانية المباشرة التي ساهمت في تصليب عود حركة المقاومة وتعزيز بذرتها بعموم منطقة الريف
ولإنهاء القسم الأول من الكتاب، انتقل المؤلف لرصد ردود الفعل المتباينة حول إنجازات المقاومة الريفية، سواء بالنسبة للمخزن الحفيظي أو بالنسبة لمختلف مكونات قبيلة قلعية، وخاصة منها تلك التي آثرت الاستسلام للمستعمر الإسباني تحت مبررات شتى حرص المؤلف على التوثيق لها بالكثير من عناصر الدقة والتحليل.
وفي القسم الثاني من الكتاب، اهتم المؤلف بتحليل سياقات الغزو الإسباني للمنطقة، من خلال تتبع سلسلة المواجهات التي خاضها المجاهدون ضد الفيالق الإسبانية الغازية لسنتي 1908 و1909. وارتباطا بنفس السياق، حاول المؤلف تقديم الكثير من المعطيات التصنيفية لتصور المخزن الحفيظي لوضعية الاحتلال بالمنطقة، وكذلك حول مجمل مكونات الهيكلة الحربية التي أطرت فعلي التوعية والتعبئة التي ارتبطت بآليات المقاومة خلال سنتي 1910 و1911. وفي القسم الثالث من الكتاب، توقف المؤلف طويلا عند ظروف انطلاق العمليات الجهادية الأولى لسنة 1911، مركزا على إبراز حيثيات الإعلان عن الشرارة الأولى يوم 24 غشت من سنة 1911، ثم عن الإعلان الرسمي عن جهاد المرحلة يوم 8 أكتوبر من نفس السنة. وفي تتبع تصنيفي دقيق، تتبع المؤلف مجمل العمليات الجهادية عبر جبهاتها الثلاث، الشمالية والوسطى والجنوبية، وختم بحثه بالتوقف لتلمس ظروف استشهاد الشريف محمد أمزيان.
وفي آخر مواد الكتاب، قدم المؤلف حصيلة تركيبية حول مجمل خلاصات بحثه، إلى جانب سلسلة من الملاحق التوضيحية الخاصة بالوثائق وبالأعلام البشرية والجغرافية وبالخرائط وبالرسوم وبالصور وبالجداول، وهي الفهارس التي ساهمت في إضاءة الكثير من عتمات موضوع البحث وفي ضبط سياقاته وفي تقريب مضامين متنه من اهتمامات الباحثين.
وبذلك، استطاع الدكتور حسن الفكيكي أن يضع أسسا علمية صلبة لمشروع رائد لكتابة تاريخ الجهاد البطولي الذي عرفته منطقة الريف خلال مطلع القرن الماضي، وهو التاريخ الذي ارتبط بسيرة الشريف محمد أمزيان. وبتواضع العلماء الكبار، كان حسن الفكيكي حريصا على التأكيد على أن الأمر لم يكن إلا خطوة تأسيسية يمكن أن تفتح الباب أمام ما ينتظر همم الباحثين والمؤرخين المغاربة المعاصرين بهذا الخصوص، إذ يقول : ” وحسبنا الآن أن تكون هذه الحصيلة الأولى قاعدة عريضة سابقة لما قد يتيسر من التساؤلات والإجابات، ونتمنى صادقين أن تكون بمثابة المسلك المعبد والمرشد لقطع أشواط أكبر ومسافات أطول في مجال البحث العلمي. هذه في نظرة أولى النتائج التي توصل إليها هذا المولود الجديد “.
إنه نداء مفتوح، لا شك وأنه سيحفز ذاكرتنا الجماعية والتاريخية لإعادة تقييم مجمل المسار الجهادي لمنطقة الريف المعاصرة، من خلال سيرة ملهمها الشريف محمد أمزيان، ثم من خلال كل ما أفرزته من تداعيات تحررية عميقة كان لها الأثر الواضح في تشكل الوعي الوطني التحرري للمراحل اللاحقة.